الْأَخْبَارِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَأْخُذَهُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى إنَّ مَنْ فَقَدْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ يَفْقِدُ بِفَقْدِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا كَانَ هُوَ الْوَاسِطَةُ فِيهِ.
فَالْأَصَمُّ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْعِلْمِ.
وَالضَّرِيرُ لَا يَدْرِي مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَشْخَاصُ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَظَرَ إلَى الْأَشْيَاءِ بِغَيْرِ قَلْبٍ، أَوْ اسْتَمَعَ إلَى كَلِمَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ قَلْبٍ.
فَإِنَّهُ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا.
فَمَدَارُ الْأَمْرِ عَلَى الْقَلْبِ.
وَعِنْدَ هَذَا تَسْتَبِينُ الْحِكْمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: ٤٦] .
حَتَّى لَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْعَيْنَ كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّوَابِقِ.
فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ هُنَا فِي أُمُورٍ غَائِبَةٍ.
وَحِكْمَةٍ مَعْقُولَةٍ مِنْ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ.
لَا مَجَالَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ فِيهَا.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان: ٤٤] ، وَتَتَبَيَّنُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: ٣٧] .
فَإِنَّ مَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ وَيَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ.
إمَّا رَجُلٌ رَأَى الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَهُ وَاتَّبَعَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهِ.
فَذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلْبِ.
أَوْ رَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْهُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ وَيَعِظُهُ وَيُؤَدِّبُهُ.
فَهَذَا أَصْغَى فَأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
أَيْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَائِبِهِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَوُتَى الْعِلْمَ وَكَانَ لَهُ ذِكْرَى.
وَيُتَبَيَّنُ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس: ٤٢] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: ٤٣] .
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: ٢٥] .
ثُمَّ إذَا كَانَ حَقُّ الْقَلْبِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ: