للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: ٣٢] .

إذَا كَانَ كُلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ لَمْحَةُ نَاظِرٍ.

وَيُحَوَّلُ فِي لَفْتَةِ خَاطِرٍ.

فَاَللَّهُ رَبُّهُ وَمُنْشَئِهِ وَفَاطِرُهُ وَمُبْدِئُهُ؛ لَا يُحِيطُ عِلْمًا إلَّا بِمَا هُوَ مِنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَةِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ.

وَأَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا لَبِيدٌ:

أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ

مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إذَا نَظَرْت إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَجَدْتَهُ إلَى الْعَدَمِ مَا هُوَ فَقِيرٌ إلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ.

فَإِذَا نَظَرْت إلَيْهِ وَقَدْ تَوَلَّتْهُ يَدُ الْعِنَايَةِ بِتَقْدِيرِ مَنْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.

رَأَيْته حِينَئِذٍ مَوْجُودًا مَكْسُوًّا حُلَلَ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.

فَقَدْ اسْتَبَانَ الْقَلْبُ إنَّمَا خُلِقَ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.

وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَظُنُّهُ سُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْجَسَدِ، فَكَمَا لَا يَجِدُ الْجَسَدُ لَذَّةَ الطَّعَامِ مَعَ السَّقَمِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الذِّكْرِ مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا، أَوْ كَمَا قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِاَللَّهِ عَاقِلًا لِلْحَقِّ، مُفَكِّرًا فِي الْعِلْمِ، فَقَدْ وُضِعَ مَوْضِعَهُ، كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ إذَا صُرِفَتْ إلَى النَّظَرِ فِي الْأَشْيَاءِ فَقَدْ وُضِعَتْ فِي مَوْضِعِهَا.

أَمَّا إذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى الْعِلْمِ، وَلَمْ يُرْعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَنَسِيَ رَبَّهُ، فَلَمْ يُوضَعْ فِي مَوْضِعٍ، بَلْ هُوَ ضَائِعٌ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ وُضِعَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِهِ، بَلْ لَمْ يُوضَعْ أَصْلًا، فَإِنَّ مَوْضِعَهُ هُوَ الْحَقُّ، وَمَا سِوَى الْحَقِّ بَاطِلٌ.

فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِي الْحَقِّ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْبَاطِلُ، وَالْبَاطِلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ أَحْرَى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا.

وَالْقَلْبُ هُوَ بِنَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْحَقَّ، فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ مَا خُلِقَ لَهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح: ٢٣] وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ مُخْلًى، فَإِنَّ مَنْ لَا يَزَالُ مِنْ أَوْدِيَةِ الْأَفْكَارِ وَأَقْطَارِ الْأَمَانِي، لَا يَكُونُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ مِنْ الْفَرَاغِ وَالتَّخَلِّي، فَقَدْ وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، لَا مُطْلَقٍ وَلَا مُعَلَّقٍ، مَوْضُوعٌ لَا مَوْضِعَ لَهُ، وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ، فَسُبْحَانَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>