للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصِّبْغَةُ عَدَمٌ وَنَفْيٌ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ إذَا صُرِفَ إلَى الْبَاطِلِ فَلَهُ وَجْهَانِ: وَجْهُ الْوُجُودِ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى الْبَاطِلِ مَشْغُولٌ بِهِ، وَوَجْهُ الْعَدَمِ أَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْحَقِّ غَيْرُ قَابِلٍ لَهُ.

وَهَذَا يُبَيِّنُ مِنْ الْبَيَانِ وَالْحُسْنِ وَالصِّدْقِ مَا فِي قَوْلِهِ:

إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ... بِغَيْرِ إنَاءٍ فَهُوَ قَلْبٌ مُضَيَّعٌ

فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ مَنْ ضَيَّعَ قَلْبَهُ فَظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ اشْتَغَلَ بِالْبَاطِلِ، وَمَلَأَ بِهِ قَلْبَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِلْحَقِّ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْوُلُوجِ فِيهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَوَصَفَ حَالَ هَذَا الْقَلْبِ بِوَجْهَيْهِ، وَنَعَتَهُ بِمَذْهَبَيْهِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا وَصْفَ الْوُجُودِ مِنْهُ، فَقَالَ:

إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ

، يَقُولُ إذَا شَغَلَتْهُ بِمَا لَمْ يُخْلَقْ لَهُ فَصَرَفْته إلَى الْبَاطِلِ حَتَّى صَارَ مَوْضُوعًا فِيهِ.

ثُمَّ الْبَاطِلُ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: تَشْغَلُ عَنْ الْحَقِّ وَلَا تُعَانِدُهُ، مِثْلُ الْأَفْكَارِ وَالْهُمُومِ الَّتِي مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ.

وَالثَّانِيَةُ: تُعَانِدُ الْحَقَّ وَتَصُدُّ عَنْهُ، مِثْلُ الْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، بَلْ الْقَلْبُ لَمْ يُخْلَقْ إلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَيْسَ مَوْضِعًا لَهُ.

ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا وَوَصَفَ الْعَدَمَ مِنْهُ فَقَالَ: " بِغَيْرِ إنَاءٍ "، يَقُولُ: إذَا وَضَعْته بِغَيْرِ إنَاءٍ فَوَضَعْته وَلَا إنَاءَ مَعَك، كَمَا تَقُولُ حَضَرْت الْمَجْلِسَ بِلَا مِحْبَرَةٍ.

فَالْكَلِمَةُ حَالٌ مِنْ الْوَاضِعِ، لَا مِنْ الْمَوْضُوعِ.

وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ إذَا مَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَاشْتَغَلَ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ، وَيَتَنَزَّلُ إلَيْهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْقَلْبِ، فَقَلْبُك إذًا مُضَيَّعٌ، ضَيَّعْته مِنْ وَجْهَيْ التَّضْيِيعِ، وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّك وَضَعْته فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا إنَاءَ مَعَك يَكُونُ وِعَاءً لِحَقِّهِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْطَاهُ، كَمَا لَوْ قِيلَ، لِمَلِكٍ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ: إذَا اشْتَغَلْت بِغَيْرِ الْمُمَاسَكَةِ وَلَيْسَ فِي الْمِلْكِ مَنْ يُدَبِّرُهُ فَهُوَ مِلْكٌ ضَائِعٌ، لَكِنْ هُنَا الْإِنَاءُ هُوَ الْقَلْبُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يَصْنَعَهُ: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] .

<<  <  ج: ص:  >  >>