إلَى مَا يُغَايِرُهُ لَا يُوجَدُ بِنَفْسِهِ، بَلْ بِذَلِكَ الْغَيْرِ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَا بِهِ وُجُودُهُ فَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا فِي نَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثٌ.
ثُمَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِنَفْسِهِ، وَأَنْ يَحْتَاجَ إلَيْهِ مَا سِوَاهُ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ.
وَأَهْلُ الْإِلْحَادِ الْقَائِلُونَ بِالْوَحْدَةِ أَوْ الْحُلُولِ أَوْ الِاتِّحَادِ لَا يَقُولُونَ إنَّهُ هُوَ الزَّمَانُ، وَلَا إنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْأَعْرَاضِ وَالصِّفَاتِ، بَلْ يَقُولُونَ هُوَ مَجْمُوعُ الْعَالَمِ، أَوْ حَالٌّ فِي مَجْمُوعِ الْعَالَمِ، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ شُبْهَةٌ لَهُمْ، لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُقَلِّبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَكَيْفَ وَفِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ بِيَدِهِ الْأَمْرُ يُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَلِلنَّاسِ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَرَجَ الْكَلَامُ فِيهِ لِرَدِّ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أَوْ مُنِعُوا أَغْرَاضَهُمْ، أَخَذُوا يَسُبُّونَ الدَّهْرَ وَالزَّمَانَ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: قَبَّحَ اللَّهُ الدَّهْرَ الَّذِي شَتَّتْ شَمْلَنَا، وَلَعَنَ اللَّهُ الزَّمَانَ الَّذِي جَرَى فِيهِ كَذَا وَكَذَا.
وَكَثِيرًا مَا جَرَى مِنْ كَلَامِ الشُّعَرَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ نَحْوُ هَذَا، كَقَوْلِهِمْ: يَا دَهْرُ فَعَلْت كَذَا، وَهُمْ يَقْصِدُونَ سَبَّ مَنْ فَعَلَ تِلْكَ الْأُمُورَ، وَيُضِيفُونَهَا إلَى الدَّهْرِ، فَيَقَعُ السَّبُّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ تِلْكَ الْأُمُورَ وَأَحْدَثَهَا، وَالدَّهْرُ مَخْلُوقٌ لَهُ، هُوَ الَّذِي يُقَلِّبُهُ وَيَصْرِفُهُ، وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ ابْنَ آدَمَ يَسُبُّ مَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَأَنَا فَعَلْتهَا، فَإِذَا سَبَّ الدَّهْرَ فَمَقْصُودُهُ سَبُّ الْفَاعِلِ، وَإِنْ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى الدَّهْرِ، وَالدَّهْرُ لَا فِعْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ.
وَهَذَا كَرَجُلٍ قَضَى عَلَيْهِ قَاضٍ بِحَقٍّ، أَوْ أَفْتَاهُ مُفْتٍ بِحَقٍّ، فَجَعَلَ يَقُولُ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ قَضَى بِهَذَا أَوْ أَفْتَى بِهَذَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفُتْيَاهُ، فَيَقَعُ السَّبُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ السَّابُّ لِجَهْلِهِ أَضَافَ الْأَمْرَ إلَى الْمُبَلِّغِ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالْمُبَلِّغُ فِعْلٌ مِنْ التَّبْلِيغِ، بِخِلَافِ الزَّمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يُقَلِّبُهُ وَيَصْرِفُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute