مِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى مَا لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الْآخَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنَى فِي بَعْضِ النَّجَاسَاتِ مَا لَا يُمْكِنُ نَزْحُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَثْنِي مَا فَوْقَ الْقُلَّتَيْنِ، وَعَلَّلَ بَعْضُهُمْ الْمُسْتَثْنَى بِمَشَقَّةِ التَّنْجِيسِ، وَبِعَدَمِ وُصُولِ النَّجَاسَةِ إلَى الْكَثِيرِ، وَبَعْضُهُمْ بِتَعَذُّرِ التَّطْهِيرِ. وَهَذِهِ الْعِلَلُ مَوْجُودَةٌ فِي الْكَثِيرِ مِنْ الْأَدْهَانِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْحَبِّ الْعَظِيمِ قَنَاطِيرُ مُقَنْطَرَةٌ مِنْ الزَّيْتِ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ صِيَانَتُهُ عَنْ الْوَاقِعِ، وَالدُّورُ وَالْحَوَانِيتُ مَمْلُوءَةٌ مِمَّا لَا يُمْكِنُ صِيَانَتُهُ كَالسُّكَّرِ وَغَيْرِهِ، فَالْعُسْرُ وَالْحَرَجُ بِتَنْجِيسِ هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَلِهَذَا لَمْ يَرِدْ بِتَنْجِيسِ الْكَثِيرِ أَثَرٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ، وَاخْتَلَفَ كَلَامُ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَنْجِيسِ الْكَثِيرِ.
وَأَمَّا الْقَلِيلُ فَإِنَّهُ ظَنَّ صِحَّةَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ فَأَخَذَ بِهِ، وَقَدْ اطَّلَعَ غَيْرُهُ عَلَى الْعِلَّةِ الْقَادِحَةِ فِيهِ، وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَلِهَذَا نَظَائِرُ، كَأَنْ يَأْخُذَ بِحَدِيثٍ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ ضَعْفُهُ، فَيَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ، وَقَدْ يَتْرُكُ الْأَخْذَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَتَبَيَّنَ صِحَّتُهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّتُهُ أَخَذَ بِهِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِظَنِّهِ صِحَّتَهُ، عَدَلَ إلَيْهِ عَمَّا رَمَاهُ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ، وَرَوَى صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِهِ، عَنْ أَبِيهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، ثَنَا أَبِي، ثَنَا إسْمَاعِيلُ، ثَنَا عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ مَاتَتْ فِي سَمْنٍ، قَالَ: تُؤْخَذُ الْفَأْرَةُ وَمَا حَوْلَهَا. قُلْت: يَا مَوْلَانَا فَإِنَّ أَثَرَهَا فِي السَّمْنِ كُلِّهِ. قَالَ: عَضِضْت بِهِنَّ أَبِيك إنَّمَا كَانَ أَثَرُهَا بِالسَّمْنِ، وَهِيَ حَيَّةٌ وَإِنَّمَا مَاتَتْ حَيْثُ وُجِدَتْ. ثَنَا أَبِي، ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنْ جَرٍّ فِيهِ زَيْتٌ وَقَعَ فِيهِ جُرَذٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُذْهُ وَمَا حَوْلَهُ فَأَلْقِهِ، وَكُلْهُ. قُلْت: أَلَيْسَ جَالَ فِي الْجَرِّ كُلِّهِ؟ قَالَ: إنَّهُ جَالَ وَفِيهِ الرُّوحُ فَاسْتَقَرَّ حَيْثُ مَاتَ. وَرَوَى الْخَلَّالُ، عَنْ صَالِحٍ قَالَ: ثَنَا أَبِي، ثَنَا وَكِيعٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حَرُمَ مِنْ الْمَيْتَةِ لَحْمُهَا وَدَمُهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute