للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ: هُوَ أَشَدُّ مِمَّنْ أَخَذَ حَدًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا يَأْخُذُ مِنْ وَاحِدٍ، وَهَذَا يَأْخُذُ مِنْ جَمَاعَةٍ الْمُسْلِمِينَ.

قُلْت: وَقَدْ صَنَّفَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَطَّةَ مُصَنَّفًا فِيمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ آثَارًا عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مِنْهُمْ: الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ.

قَالَ فِي " الْمُغْنِي ": وَمَا كَانَ مِنْ الشَّوَارِعِ، وَالطُّرُقَاتِ، وَالرَّحْبَاتِ بَيْنَ الْعُمْرَانِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ إحْيَاؤُهُ، سَوَاءٌ كَانَ وَاسِعًا أَوْ ضَيِّقًا، وَسَوَاءٌ ضَيَّقَ عَلَى النَّاسِ بِذَلِكَ، أَوْ لَمْ يُضَيِّقْ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَتَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَتُهُمْ، فَأَشْبَهَ مَسَاجِدَهُمْ، وَيَجُوزُ الِارْتِفَاقُ بِالْعُقُودِ فِي الْوَاسِعِ؛

مِنْ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُضَيِّقُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ، عَلَى إقْرَارِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ، وَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ بِمُبَاحٍ مِنْ غَيْرِ أَضْرَارٍ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَالِاحْتِيَازِ.

قَالَ أَحْمَدُ فِي السَّابِقِ إلَى دَكَاكِينِ السُّوقِ غَدْوَةً فَهُوَ لَهُ إلَى اللَّيْلِ، وَكَانَ هَذَا فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ فِيمَا مَضَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ «مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ» وَلَهُ أَنْ يُظَلِّلَ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا لَا ضَرَرَ فِيهِ مِنْ بَارِيَّةٍ وَتَابُوتٍ وَكِسَاءٍ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ الْبِنَاءُ لَا دَكَّةً وَلَا غَيْرَهَا، لِأَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ وَتَعْثُرُ بِهِ الْمَارَّةُ بِاللَّيْلِ، وَالضَّرِيرُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَيَبْقَى عَلَى الدَّوَامِ فَرُبَّمَا ادَّعَى مِلْكَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَالسَّابِقُ أَحَقُّ بِهِ مَا دَامَ فِيهِ.

قُلْت: هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا بَنَى الدِّكَّةَ لِنَفْسِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَآخِرُهُ وَلِهَذَا عَلَّلَ بِأَنَّهُ قَدْ يَدَّعِي مِلْكَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ تَعْلِيلَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَظِنَّةِ الضَّرَرِ فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّ الْبِنَاءَ يُحَاذِي مَا عَلَى يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَلَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ أَصْلًا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِيهِ وَمُوجِبُ هَذَا التَّعْلِيلِ الْجَوَازُ إذَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي.

<<  <  ج: ص:  >  >>