وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ، أَوْلَى بِعَدَمِ التَّنْجِيسِ مِنْ الْمَاءِ هُوَ الْأَظْهَرُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ لَوْ نَجِسَ الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ لَمْ يَلْزَمْ تَنْجِيسُ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَطْعِمَةِ، وَلِهَذَا أَمَرَ مَالِكٌ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْمَاءِ الْقَلِيلِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِرَاقَةِ مَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَاسْتَعْظَمَ إرَاقَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُمَنُّ لَهُ فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ أَشْرِبَةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَطْعِمَتِهِمْ، فَإِنَّ فِي نَجَاسَتِهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ وَالضِّيقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ يَعْتَبِرُونَ رَفْعَ الْحَرَجِ فِي هَذَا الْبَابِ، فَإِذَا لَمْ يُنَجِّسُوا الْمَاءَ الْكَثِيرَ رَفْعًا لِلْحَرَجِ فَكَيْفَ يُنَجِّسُونَ نَظِيرَهُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ، وَالْحَرَجُ فِي هَذَا أَشَقُّ، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمَائِعَاتِ الْكَثِيرَةِ لَا تَكَادُ تَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَاءُ يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ غَيْرِهِ، فَعَنْ نَفْسِهِ أَوْلَى وَأَحْرَى؛ بِخِلَافِ الْمَائِعَاتِ. قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: إنَّ الْمَاءَ إنَّمَا دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ يُزِيلُهَا عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَتَنْتَقِلُ مَعَهُ، فَلَا يَبْقَى عَلَى الْمَحَلِّ نَجَاسَةٌ وَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ فِيهِ، فَإِنَّمَا كَانَ طَاهِرًا لِاسْتِحَالَتِهَا فِيهِ لَا لِكَوْنِهِ أَزَالَهَا عَنْ نَفْسِهِ. وَلِهَذَا يَقُولُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْمَائِعَاتِ كَالْمَاءِ فِي الْإِزَالَةِ، وَهِيَ كَالْمَاءِ فِي التَّنْجِيسِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ كَوْنِ الْمَاءِ يُزِيلُهَا إذَا زَالَتْ مَعَهُ أَنْ يُزِيلَهَا إذَا كَانَتْ فِيهِ، وَنَظِيرُ الْمَاءِ الَّذِي فِيهِ النَّجَاسَةُ: الْغُسَالَةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ الْمَحَلِّ، وَتِلْكَ نَجِسَةٌ قَبْلَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ، وَفِيهَا بَعْدَ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: هَلْ هِيَ طَاهِرَةٌ، أَوْ مُطَهَّرَةٌ، أَوْ نَجِسَةٌ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: الْمَاءُ يَنْجُسُ بِوُقُوعِهَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا كَانَتْ النُّصُوصُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّهَا لَا تَنْجُسُ بِمُجَرَّدِ الْوُقُوعِ مَعَ الْكَثْرَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute