وَقَوْلُهُ: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ» .
فَإِنَّهُ إذَا كَانَ طَهُورًا يَطْهُرُ بِهِ غَيْرُهُ، عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ بِالْمُلَاقَاةِ، إذْ لَوْ نَجِسَ بِهَا لَكَانَ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ يَنْجُسُ بِمُلَاقَاتِهَا، فَحِينَئِذٍ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، لَكِنْ إنْ بَقِيَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ حَرُمَتْ، وَإِنْ اسْتَحَالَتْ زَالَتْ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اسْتِحَالَةَ النَّجَاسَةِ مَعَ مُلَاقَاتِهَا فِيهِ لَا تُنَجِّسُهُ، إنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ زَالَتْ كَمَا زَالَتْ عَنْ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: يَدْفَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ كَمَا يُزِيلُهَا عَنْ غَيْرِهِ فَقَدْ خَالَفَ الْمُشَاهَدَةَ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَغَيْرِهَا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: غَايَةُ هَذَا أَنْ يَقْتَضِيَ أَنَّهُ يُمْكِنُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعِ، وَهَذَا أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَمَالِكٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِ. وَأَحْمَدُ جَعَلَهُ لَازِمًا فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَائِعَ لَا يَنْجُسُ بِمُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ، وَقَالَ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَنْ تُزَالَ بِهِ النَّجَاسَةُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفَعَهَا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَاءِ، فَيَلْزَمُ جَوَازُ إزَالَتِهِ بِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ مُزِيلٍ لِلْعَيْنِ، قَلَّاعٍ لِلْأَثَرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ، فَنَقُولُ بِهِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ دَفْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ، لِكَوْنِ الْإِحَالَةِ أَقْوَى مِنْ الْإِزَالَةِ، فَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ إنَّهُ يَجُوزُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ مِنْ الْمَائِعَاتِ أَنْ تَكُونَ الْمَائِعَاتُ كَالْمَاءِ، فَإِذَا كَانَ الصَّحِيحُ فِي الْمَاءِ أَنَّهُ لَا يَنْجُسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ، إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مَعَ الْكَثْرَةِ، فَكَذَلِكَ الصَّوَابُ فِي الْمَائِعَاتِ، وَفِي الْجُمْلَةِ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمَاءِ، وَالْمَائِعَاتِ مُمْكِنٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، وَهَذَا مُقْتَضَى النَّصِّ وَالْقِيَاسِ فِي مَسْأَلَةِ إزَالَةِ النَّجَاسَاتِ، وَفِي مَسْأَلَةِ مُلَاقَاتِهَا لِلْمَائِعَاتِ الْمَاءِ وَغَيْرِ الْمَاءِ.
وَمَنْ تَدَبَّرَ الْأُصُولَ الْمَنْصُوصَةَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهَا، وَالْمَعَانِيَ الشَّرْعِيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْوَبُ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ نَجَاسَةَ الْمَاءِ وَالْمَائِعَاتِ بِدُونِ التَّغَيُّرِ بَعِيدٌ عَنْ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْأَقْيِسَةِ، وَكَوْنُ حُكْمِ النَّجَاسَةِ تَبْقَى فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute