مَوَارِدِهَا بَعْدَ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِمَائِعٍ، أَوْ غَيْرِ مَائِعٍ بَعِيدٌ عَنْ الْأُصُولِ وَمُوجَبِ الْقِيَاسِ، وَمَنْ كَانَ فَقِيهًا خَبِيرًا بِمَأْخَذِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَزَالَ عَنْهُ الْهَوَى، تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ فِي اسْتِعْمَالِهَا فَسَادٌ، فَإِنَّهُ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ، كَمَا يُنْهَى عَنْ ذَبْحِ الْخَيْلِ الَّتِي يُجَاهَدُ عَلَيْهَا، وَالْإِبِلِ الَّتِي يُحَجُّ عَلَيْهَا، وَالْبَقَرِ الَّتِي يُحْرَثُ عَلَيْهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، لَا لِأَجْلِ الْخَبَثِ.
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ، فَنَفِدَتْ أَزْوَادُهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي نَحْرِ الظَّهْرِ، فَأَذِنَ لَهُمْ، ثُمَّ أَتَى عُمَرُ، فَسَأَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ الْأَزْوَادَ، فَيَدْعُو اللَّهَ بِالْبَرَكَةِ فِيهَا وَيُبْقِي الظَّهْرَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ» . فَنَهْيُهُ لَهُمْ عَنْ نَحْرِ الظَّهْرِ كَانَ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ لِلرُّكُوبِ، لَا؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ مُحَرَّمَةٌ. فَهَكَذَا يُنْهَى فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِهَا، كَمَا يُنْهَى عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِمَا لَهُ حُرْمَةٌ مِنْ طَعَامِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَعَلَفِ دَوَابِّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِنْجَاءُ بِهَا، بَلْ لِحُرْمَتِهَا، فَالْقَوْلُ فِي الْمَائِعَاتِ كَالْقَوْلِ فِي الْجَامِدَاتِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ إحَالَةُ الْمَائِعَاتِ لِلنَّجَاسَةِ إلَى طَبْعِهَا أَقْوَى مِنْ إحَالَةِ الْمَاءِ، وَتَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَاتِ أَسْرَعُ مِنْ تَغَيُّرِ الْمَائِعَاتِ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ لَا يَنْجُسُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ النَّجَاسَةِ لِاسْتِحَالَتِهَا إلَى طَبِيعَتِهِ فَالْمَائِعَاتُ أَوْلَى وَأَحْرَى.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ النَّجَاسَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الْمَاءِ وَالْمَائِعِ طَعْمٌ، وَلَا لَوْنٌ، وَلَا رِيحٌ، لَا نُسَلِّمُ أَنْ يُقَالَ بِنَجَاسَتِهِ أَصْلًا، كَمَا فِي الْخَمْرِ الْمُسْلَبَةِ أَوْ أَبْلَغَ، وَطُرِدَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الِاسْتِحَالَةِ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِيلَاتِ مِنْ النَّجَاسَةِ طَاهِرَةٌ، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَالظَّاهِرِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ، وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ دَفْعَ الْعَيْنِ لِلنَّجَاسَةِ عَنْ نَفْسِهَا كَدَفْعِ الْمَاءِ، لَا يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ، بَلْ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي التُّرَابِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي النَّجَاسَةِ إذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute