يَتَصَرَّفَ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا بَيَانُ حَالِ الْعَبْدِ الْمَحْضِ لِلَّهِ الَّذِي يَعْبُدُهُ وَيَسْتَعِينُهُ فَيَعْمَلُ لَهُ وَيَسْتَعِينُهُ وَيُحَقِّقُ قَوْلَهُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْإِلَهِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الرُّبُوبِيَّةَ.
وَالرُّبُوبِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْإِلَهِيَّةَ؛ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا إذَا تَضَمَّنَ الْآخَرَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَخْتَصَّ مَعْنَاهُ عِنْدَ الِاقْتِرَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: ١] {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: ٢] {إِلَهِ النَّاسِ} [الناس: ٣] وَفِي قَوْلِهِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ٢] فَجَمَعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ: اسْمِ الْإِلَهِ وَاسْمِ الرَّبِّ.
فَإِنَّ " الْإِلَهَ " هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ.
" وَالرَّبُّ " هُوَ الَّذِي يَرُبُّ عَبْدَهُ فَيُدَبِّرُهُ.
وَلِهَذَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ: اللَّهُ، وَالسُّؤَالُ مُتَعَلِّقًا بِاسْمِهِ: الرَّبُّ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي لَهَا خَلْقَ الْخَلْقَ.
وَالْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْغَايَةُ؛ وَالرُّبُوبِيَّةَ تَتَضَمَّنُ خَلْقَ الْخَلْقِ وَإِنْشَاءَهُمْ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ ابْتِدَاءَ حَالِهِمْ؛ وَالْمُصَلِّي إذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] فَبَدَأَ بِالْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ عَلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي هِيَ الْبِدَايَةُ، فَالْعِبَادَةُ غَايَةٌ مَقْصُودَةٌ؛ وَالِاسْتِعَانَةُ وَسِيلَةٌ إلَيْهَا؛ تِلْكَ حِكْمَةٌ وَهَذَا سَبَبٌ؛ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ وَالْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ مَعْرُوفٌ؛ وَلِهَذَا يُقَالُ: أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ وَأَوَّلُ الْبُغْيَةِ آخِرُ الدَّرْكِ.
فَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التَّصَوُّرِ وَالْإِرَادَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الْوُجُودِ.
فَالْمُؤْمِنُ يَقْصِدُ عِبَادَةَ اللَّهِ ابْتِدَاءً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِعَانَتِهِ فَيَقُولُ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: ٥] .
وَلَمَّا كَانَتْ الْعِبَادَةُ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِهِ: اللَّهُ تَعَالَى جَاءَتْ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ بِهَذَا الِاسْمِ مِثْلُ كَلِمَاتِ الْأَذَانِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ.
وَمِثْلُ الشَّهَادَتَيْنِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ.
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَمِثْلُ التَّشَهُّدِ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ.
وَمِثْلُ التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ.
وَأَمَّا السُّؤَالُ فَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ بِاسْمِ الرَّبُّ كَقَوْلِ آدَمَ وَحَوَّاءَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: ٢٣]