للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُوقِنًا أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيَظْهَرُ حَتَّى أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ، وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْهُ عَامَ الْيَرْمُوكِ وَغَيْرِهِ مَا دَلَّ عَلَى حُسْنِ إسْلَامِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بَعْدَ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ الْعَظِيمَةِ.

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: ٦٨] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: ٦٩] {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: ٧٠] فَإِذَا كَانَ اللَّهُ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ فَالْحَسَنَاتُ تُوجِبُ مَوَدَّةَ اللَّهِ لَهُمْ، وَتَبْدِيلُ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِمَنْ كَانَ كَافِرًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: ١٧] قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا لِي: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَكُلٌّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: إنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ تَائِبٍ وَتَائِبٍ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّائِبَيْنِ فَرْقٌ لَا أَصْلَ لَهُ؛ بَلْ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ، سَوَاءٌ كَانُوا عَالِمِينَ بِأَنَّ مَا أَتَوْهُ ذَنْبًا أَوْ لَمْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ.

وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا أَتَاهُ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَدِّلَ وَصْفَهُ الْمَذْمُومَ بِالْمَحْمُودِ؛ فَإِذَا كَانَ يَبْغُضُ الْحَقَّ فَلَا بُدَّ أَنْ يُحِبَّهُ، وَإِذَا كَانَ يُحِبُّ الْبَاطِلَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْغُضَهُ. فَمَا يَأْتِي بِهِ التَّائِبُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَمَحَبَّتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَمِنْ بُغْضِ الْبَاطِلِ وَاجْتِنَابِهِ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهَا، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ كَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يَأْتِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ مَحَابِّهِ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْظَمَ فِعْلًا لِمَحْبُوبِ الْحَقِّ كَانَ الْحَقُّ أَعْظَمَ مَحَبَّةً لَهُ، وَانْتِقَالُهُ مِنْ مَكْرُوهِ الْحَقِّ إلَى مَحْبُوبِهِ مَعَ قُوَّةِ بُغْضِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَاطِلِ، وَقُوَّةِ حُبِّ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ مِنْ حُبِّ الْحَقِّ، فَوَجَبَ زِيَادَةُ مَحَبَّةِ الْحَقِّ لَهُ وَمَوَدَّتُهُ إيَّاهُ؛ بَلْ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ لِأَنَّهُ بَدَّلَ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةَ بِالْمَحْمُودَةِ فَيُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ. وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ إتْيَانُ التَّائِبِ بِمَا يُحِبُّهُ الْحَقَّ أَعْظَمَ مِنْ إتْيَانِ غَيْرِهِ كَانَتْ مَحَبَّةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>