وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. مِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، وَصَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ» . وَرُوِيَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَدِيثِ أَصَحُّ وَأَبْعَدُ عَنْ الْمُعَارِضِ مِنْ أَحَادِيثِ مَسِّ الذَّكَرِ، وَأَحَادِيثِ الْقَهْقَهَةِ
، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِ جَابِرٍ «كَانَ آخَرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» ، لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، إذْ كِلَاهُمَا فِي مَسِّ النَّارِ سَوَاءٌ، فَلَمَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ هَذَا، وَخَيَّرَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ الْآخَرِ، عُلِمَ بُطْلَانُ هَذَا التَّعْلِيلِ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ مَسَّ النَّارِ فَنَسْخُ التَّوَضُّؤِ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، لَا يُوجِبُ نَسْخَ التَّوَضُّؤِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بَلْ يُقَالُ: كَانَتْ لُحُومُ الْإِبِلِ أَوَّلًا يُتَوَضَّأُ مِنْهَا كَمَا يُتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نُسِخَ هَذَا الْأَمْرُ الْعَامُّ الْمُشْتَرَكُ.
فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ لَحْمُ الْإِبِلِ، فَلَوْ كَانَ قَبْلَ النَّسْخِ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا، فَكَيْفَ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ؟ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ " الْوَجْهُ الثَّانِي " وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ كَانَ بَعْدَ نَسْخِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ، وَقَدْ أَمَرَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ بَعْدَ النَّسْخِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَفِي الصَّلَاةِ فِي الْمَعَاطِنِ أَيْضًا، وَهَذَا التَّفْرِيقُ ثَابِتٌ مُحْكَمٌ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَصٌّ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، فَدَعْوَى النَّسْخِ بَاطِلٌ، بَلْ عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ يُوجِبُ الْعَمَلَ فِيهِ بِالْوُضُوءِ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ مِنْهُ نِيًّا وَمَطْبُوخًا، وَذَلِكَ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute