للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ أَتَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصٌّ عَامٌّ بِقَوْلِهِ: «لَا وُضُوءَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» ، لَمْ يَجُزْ جَعْلُهُ نَاسِخًا لِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَبْلَهُ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْعَامُّ وَالْخَاصُّ، وَلَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَنْسَخُهُ، بَلْ إمَّا أَنْ يُقَالَ الْخَاصُّ هُوَ الْمُقَدَّمُ، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ، بَلْ لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ الْخَاصِّ لَكَانَ الْخَاصُّ مُقَدَّمًا.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْخَاصَّ بَعْدَ الْعَامِّ، فَإِنْ كَانَ نَسْخٌ كَانَ الْخَاصُّ نَاسِخًا، وَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْخَاصَّ الْمُتَأَخِّرَ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ، فَعُلِمَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مِثْلِ هَذَا الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لَوْ كَانَ هُنَا لَفْظٌ عَامٌّ، كَيْفَ وَلَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيثٌ عَامٌّ يَنْسَخُ الْوُضُوءَ مِنْ كُلِّ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ.

وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ، وَكَذَلِكَ أَتَى بِالسَّوِيقِ فَأَكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ لَمْ يَتَوَضَّأْ» ، وَهَذَا فِعْلٌ لَا عُمُومَ لَهُ، فَإِنَّ التَّوَضُّؤَ مِنْ لَحْمِ الْغَنَمِ لَا يَجِبُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ، وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ دَلِيلُ ذَلِكَ، وَأَمَّا جَابِرٌ فَإِنَّمَا نَقَلَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» ، وَهَذَا نَقْلٌ لِفِعْلِهِ لَا لِقَوْلِهِ. فَإِذَا شَاهَدُوهُ قَدْ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ، صَحَّ أَنْ يُقَالَ: التَّرْكُ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ، وَالتَّرْكُ الْعَامُّ لَا يُحَاطُ بِهِ إلَّا بِدَوَامِ مُعَاشَرَتِهِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُ التَّرْكُ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ.

ثُمَّ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ لَا يُوجِبُ تَرْكَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَلَحْمُ الْإِبِلِ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْهُ لِأَجْلِ مَسِّ النَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ، بَلْ الْمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ وَيَتَنَاوَلُهُ نِيًّا وَمَطْبُوخًا، فَبَيْنَ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ، هَذَا أَعَمُّ مِنْ وَجْهٍ، وَهَذَا أَخَصُّ مِنْ وَجْهٍ.

وَقَدْ يَتَّفِقُ الْوَجْهَانِ، فَيَكُونُ لِلْحُكْمِ عِلَّتَانِ، وَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّوَضُّؤِ مِنْ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْوُضُوءِ مِنْ الْقُبْلَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَبِّلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>