فَنَقُولُ: مَعْلُومٌ أَنَّ الْمُكْرَهَ قَدْ أَتَى بِاللَّفْظِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ. وَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْحُكْمَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ قَصْدِهِ، وَإِرَادَتِهِ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَكَوْنِهِ إنَّمَا قَصَدَ بِهِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ حُكْمِهِ. فَعُلِمَ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ لَيْسَ مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ اقْتِضَاءَ الْفِعْلِ أَثَرَهُ. فَإِنَّهُ لَوْ قَتَلَ، أَوْ غَصَبَ، أَوْ أَتْلَفَ أَوْ بَخَسَ الْبَائِعَ مُكْرَهًا لَمْ نَقُلْ إنَّ ذَلِكَ الْقَتْلَ أَوْ الْغَصْبَ، أَوْ الْإِتْلَافَ، أَوْ الْبَخْسَ فَاسِدٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَقَدَ. فَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ لَمْ يَقْصِدْ الْحُكْمَ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الَّذِي احْتَالَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَعْنًى آخَرَ مِثْلَ الْبَيْعِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى الرِّبَا وَالتَّحْلِيلِ الَّذِي يَتَوَسَّلُ بِهِ إلَى رَدِّ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا لَكِنَّ الْمُكْرَهَ قَصْدُهُ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا قَصْدُهُ التَّوَسُّلُ إلَى غَرَضٍ رَدِيءٍ فَالْمُكْرَهُ وَالْمُحْتَالُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا بِالسَّبَبِ حُكْمَهُ وَلَا بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَا التَّوَسُّلَ بِذَلِكَ اللَّفْظِ وَظَاهِرِ ذَلِكَ السَّبَبِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ غَيْرَ حُكْمِ السَّبَبِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا رَاهِبٌ - قَصْدُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ - وَلِهَذَا يُحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ وَالْآخَرَ رَاغِبٌ - قَصْدُهُ إبْطَالُ حَقٍّ، أَوْ إثْبَاتُ بَاطِلٍ وَلِهَذَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ. فَالْمُكْرَهُ يَبْطُلُ حُكْمُ السَّبَبِ فِيمَا عَلَيْهِ وَفِيمَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْمُحْتَالُ فَيَبْطُلُ حُكْمُ السَّبَبِ فِيمَا احْتَالَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ تَخْتَلِفُ الْحَالُ فِيهِ كَمَا سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحْتَالٌ كَمَنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُكْرَهٌ وَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ كَمَنْ ادَّعَى ذَلِكَ. لَكِنَّ الْمُكْرَهَ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ كَرَاهَةً بِخِلَافِ الْمُحْتَالِ، وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ عُقُودُ الْهَزْلِ. وَعُقُودُ التَّلْجِئَةِ. إلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا يَحْتَاجُ بَعْضُهُ إلَى أَنْ يُحْتَجَّ لَهُ لَا أَنْ يُحْتَجَّ بِهِ. وَيَحْتَاجُ بَعْضُهُ إلَى أَنْ يُجَابَ عَنْهُ.
فَنَقُولُ: الْهَازِلُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِمُوجَبِهِ، وَإِرَادَةٍ لِحَقِيقَةِ مَعْنَاهُ بَلْ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ، وَنَقِيضُهُ الْجَادُّ: وَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ - كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ جَدَّ فُلَانٌ إذَا عَظُمَ وَاسْتَغْنَى وَصَارَ ذَا حَظٍّ، وَالْهَزْلُ مِنْ هَزِلَ إذَا ضَعُفَ وَضَؤُلَ. كَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي لَهُ مَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَهُ قِوَامٌ مِنْ مَالٍ، أَوْ شَرَفٍ وَاَلَّذِي لَا مَعْنَى لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِقِ فَمَا يُقِيمُهُ وَيُمْسِكُهُ - وَالتَّلْجِئَةُ هُوَ: أَنْ يَتَوَاطَأَ اثْنَانِ عَلَى إظْهَارِ الْعَقْدِ، أَوْ صِفَةٍ فِيهِ، أَوْ الْإِقْرَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صُورَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقِيقَةٌ. مِثْلُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ ظَالِمٌ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ فَيُوَاطِئُ بَعْضَ مَنْ يُخَافُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهُ صُورَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute