للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَغَيْرُهَا تُبَيِّنُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَذَّرَ الْأُمَّةَ الْأُمُورَ الْمُحْدَثَةَ وَبَيَّنَ أَنَّهَا ضَلَالَةٌ وَأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ لَا تَنْحَصِرُ دَلَائِلُهَا وَكَثْرَةُ وَصَايَا السَّلَفِ بِمَضْمُونِهَا وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ عَلَى لُزُومِ طَرِيقَةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَمُجَانَبَةِ مَا أُحْدِثَ بَعْدَهُمْ مِمَّا يُخَالِفُ طَرِيقَهُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْآثَارُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذِهِ الْحِيَلُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ وَمِنْ الْبِدَعِ الطَّارِئَةِ. أَمَّا الْإِفْتَاءُ بِهَا وَتَعْلِيمُهَا لِلنَّاسِ، وَإِنْفَاذُهَا فِي الْحُكْمِ وَاعْتِقَادُ جَوَازِهَا فَأَوَّلُ مَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ فِي أَوَاخِرِ عَصْرِ صِغَارِ التَّابِعِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْأُولَى بِسِنِينَ كَثِيرَةٍ، وَلَيْسَ فِيهَا - وَلِلَّهِ الْحَمْدُ - حِيلَةٌ وَاحِدَةٌ تُؤْثَرُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ الْمُسْتَفِيضُ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سُئِلُوا عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُوهُ وَزَجَرُوا عَنْهُ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ عَنْ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ الْعِينَةِ وَالتَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِمَا مَا بَيَّنَ قَوْلَهُمْ فِي هَذَا الْجِنْسِ، وَأَمَّا فِعْلُهَا مِنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ، فَقَدْ كَانَ يَصْدُرُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، لَكِنَّهُ يُنْكِرُهُ الْفُقَهَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ عَلَى مَنْ يَفْعَلُهُ كَمَا كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ وَالرِّبَا وَسَائِرَ الْمُحَرَّمَاتِ وَيَرَوْنَهَا دَاخِلَةً فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُدُوثِ الْفَتْوَى بِهَذِهِ الْحِيَلِ، وَكَوْنِهَا بِدْعَةً أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَدْنَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِآثَارِ السَّلَفِ وَأَيَّامِ الْإِسْلَامِ وَتَرْتِيبِ طَبَقَاتِ الْمُفْتِينَ وَالْحُكَّامِ وَيُسْتَبَانُ ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ. مِنْهَا: أَنَّ الْكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ فِي أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَضَايَاهُمْ لَيْسَ فِيهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانُوا يُفْتُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ غَيْرُهُ، وَاَلَّذِينَ صَنَّفُوا فِي الْحِيَلِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ حَرَصُوا عَلَى أَثَرٍ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ التَّعْرِيضِ وَاللَّحْنِ، وَقَوْلُهُمْ إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ، وَالْكَلَامُ أَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُكْذَبَ ظَرِيفٌ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي قُلْنَا إنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَلَا مِنْ جِنْسِهَا، فَإِنَّ الْمَعَارِيضَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالتَّأْوِيلِ فِي الْكَلَامِ، وَفِي الْحَلِفِ لِلْمَظْلُومِ بِأَنْ يَنْوِيَ بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَمَا فَعَلَ الصَّحَابِيُّ الَّذِي

<<  <  ج: ص:  >  >>