للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَهُ ذَلِكَ، وَالْإِنْكَارُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ غَيْرُ سَائِغٍ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ كَانَ مُتَقَيِّدًا بِمَذْهَبِ مَنْ يُرَخِّصُ فِيهَا -، أَوْ قَدْ تَفَقَّهَ فِيهَا وَرَأَى الدَّلِيلَ يَقْتَضِي جَوَازَهَا، وَقَدْ شَاعَ الْعَمَلُ بِهَا عَنْ جَمَاعَاتٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَالْقَوْلُ بِهَا مَعْزُوًّا إلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَمَا قَالَهُ مِثْلُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ لَا يَنْبَغِي الْإِنْكَارُ الْبَلِيغُ فِيهِ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمُجَوِّزِينَ لَهَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ.

وَقَدْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ مُتَابَعَةُ مَذْهَبِهِمْ إمَّا عَلَى سَبِيلِ الْأَلْفِ وَالِاعْتِيَادِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَهَبْ هَذَا الِاعْتِقَادَ بَاطِلًا أَلَسْتُمْ تَعْرِفُونَ فَضْلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَمَكَانَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالتَّقْوَى وَكَوْنَ بَعْضِهِمْ أَرْجَحَ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ؟ فَإِذَا قَلَّدَ الْعَامِّيُّ، أَوْ الْمُتَفَقِّهُ وَاحِدًا مِنْهُمْ إمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ، أَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِ إذَا تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَنَّ مَنْ يُقَلِّلُ فِيهِمَا هُوَ الْأَفْضَلُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ هُوَ الْمَذْهَبَ الَّذِي الْتَزَمَهُ، فَلَا وَجْهَ لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ لَا يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ.

وَهَذَا إنْ قِيلَ كَانَ فِيهِ طَعْنٌ عَلَى الْأَئِمَّةِ لِمُخَالَفَةِ الْقَوَاطِعِ وَهَذَا قَدْحٌ فِي إمَامَتِهِمْ، وَحَاشَا اللَّهَ أَنْ يَقُولُوا مَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَ هَذَا. ثُمَّ قَدْ يَقْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُقَابَلَةِ بِمِثْلِهِ، أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا مِمَّنْ يَحْمِلُهُ هَوَى دِينِهِ، أَوْ دُنْيَاهُ عَلَى مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَرُكُوبٌ لِلتَّفَرُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِفْسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَحِينَئِذٍ فَتَصِيرُ مَسَائِلُ الْفِقْهِ مِنْ بَابِ الْأَهْوَاءِ وَهَذَا غَيْرُ سَائِغٍ. وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِي الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ، مَعَ بَقَاءِ الْأُلْفَةِ وَالْعِصْمَةِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ.

قُلْنَا: نَعُوذُ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ مِمَّا يَقْضِي إلَى الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِ الْأَئِمَّةِ، أَوْ انْتِقَاصٍ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ، أَوْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِمَقَادِيرِهِمْ وَفَضْلِهِمْ، أَوْ مُحَادَّتِهِمْ وَتَرْكِ مَحَبَّتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ، وَنَرْجُو مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ نَكُونَ مِمَّنْ يُحِبُّهُمْ وَيُوَالِيهِمْ وَيَعْرِفُ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَفَضْلِهِمْ مَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ الْأَتْبَاعِ، وَأَنْ يَكُونَ نَصِيبُنَا مِنْ ذَلِكَ أَوْفَرَ نَصِيبٍ وَأَعْظَمَ حَظٍّ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.

لَكِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يَتِمُّ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ فَضْلِ الْأَئِمَّةِ وَحُقُوقِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ، وَتَرْكُ كُلِّ مَا يَجُرُّ إلَى ثَلْمِهِمْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>