للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى نَفْسِهِ لَكَانَ لِصِحَّتِهِ مَسَاغٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِوَقْفِهِ مِنْ غَيْرِ إنْشَاءٍ مُتَقَدِّمٍ، فَلَا يَجْعَلُهُ وَقْفًا بِالِاتِّفَاقِ، إذْ جَعَلَ الْإِقْرَارَ إقْرَارًا حَقِيقِيًّا.

وَلَهُمْ حِيلَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ الْوَقْفَ يُمَلِّكُهُ لِبَعْضِ ثِقَاتِهِ، ثُمَّ يَقِفُهُ ذَلِكَ الْمُمَلَّكُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ اقْتِرَاحِهِ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي قُبْحِهِ وَبُطْلَانِهِ، فَإِنَّ حَدَّ التَّمْلِيكِ: أَنْ يَرْضَى الْمُمَلِّكُ بِنَقْلِ الْمِلْكِ إلَى الْمُمَلَّكِ بِحَيْثُ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِمَا يُحِبُّ مِمَّا يَجُوزُ، وَهُنَا قَدْ عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَخَلْقُهُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ الْمُمَلَّكُ إلَّا بِالْوَقْفِ عَلَيْهِ خَاصَّةً عَلَى شُرُوطِهِ، بَلْ قَدْ مَلَّكَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَتَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِ وَقْفًا، وَهَذَا تَمْلِيكٌ فَاسِدٌ. بَلْ لَيْسَ هُوَ هِبَةً وَتَمْلِيكًا أَصْلًا، فَإِنَّ أَقَلَّ دَرَجَاتِ الْهِبَةِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَوْهُوبِ وَلَوْ إلَى حِينٍ، وَهُنَا لَمْ يُبِحْ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَطُّ وَلَوْ تَصَرَّفَ مِنْهُ بِشَيْءٍ لَعَدَّهُ غَادِرًا مَاكِرًا، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى الْمَشْرُوطِ فِيهَا الْعَوْدُ إلَى الْمُعْمِرِ، فَإِنَّ هُنَاكَ مَلَّكَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَشَرَطَ الْعَوْدَ، وَهُنَا لَمْ يُمَلِّكْهُ شَيْئًا قَطُّ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ غَيْرَ قَاصِدٍ مَعْنَاهُ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يُصَدِّقُهُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ، بَلْ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِآيَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَلَاعُبٌ بِحُدُودِهِ.

وَقَدْ كَانَ لَهُمْ طَرِيقَانِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا الْخِدَاعِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَقِفَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَسْتَثْنِيَ الْمَنْفَعَةَ لِنَفْسِهِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَإِنَّ هَذَا جَائِزٌ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ اسْتِثْنَاءَ بَعْضِ مَنْفَعَةِ الْمَمْلُوكِ مَعَ نَقْلِ الْمِلْكِ فِيهِ فَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ، أَوْ يَهَبَهُ أَوْ يُعْتِقَ الْعَبْدَ وَيَسْتَثْنِيَ بَعْضَ مَنْفَعَتِهِ.

وَيُجَوِّزُونَ أَنْ يَقِفَ الشَّيْءَ وَيَسْتَثْنِيَ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، أَوْ إلَى حِينِ مَوْتِهِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ بَعِيرِ جَابِرٍ. وَبِحَدِيثِ عِتْقِ أُمِّ سَلَمَةَ، سَفِينَةً. وَبِحَدِيثِ عِتْقِ صَفِيَّةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَبِآثَارٍ عَنْ السَّلَفِ فِي الْوَقْفِ مَعَ قُوَّةِ هَذَا الْقَوْلِ فِي الْقِيَاسِ.

وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ، وَلَكِنَّ أَخْذَ الْإِنْسَانِ بِمِثْلِ هَذَا مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا فِيهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ وَخِدَاعٌ وَزُورٌ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ نُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْحِيَلُ فَأَمْرٌ مُحْدَثٌ أَجْمَعَ السَّلَفُ عَلَى النَّهْيِ عَنْهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهَا، وَإِعْظَامِ الْقَوْلِ بِهَا.

فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْحِيَلُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، فَإِذَا قَلَّدَ الْإِنْسَانُ مَنْ يُفْتِي بِهَا

<<  <  ج: ص:  >  >>