مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ خَمْرٍ لِيَتَامَى، فَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُمْ فُقَرَاءُ، فَقَالَ: سَيُغْنِيهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» . فَلَمَّا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا وَنَهَى عَنْ تَخْلِيلِهَا وَجَبَتْ طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، فَيَجِبُ أَنْ تُرَاقَ الْخَمْرَةُ وَلَا تُخَلَّلُ، هَذَا مَعَ كَوْنِهِمْ كَانُوا يَتَامَى، وَمَعَ كَوْنِ تِلْكَ الْخَمْرَةِ كَانَتْ مُتَّخَذَةً قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، فَأُمِرُوا بِذَلِكَ كَمَا أُمِرُوا بِكَسْرِ الْآنِيَةِ، وَشَقِّ الظُّرُوفِ لِيَمْتَنِعُوا عَنْهَا. قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَمَرَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَمْ يَرِدْ بَعْدَ هَذَا نَصٌّ يَنْسَخُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَمِلُوا بِهَذَا، كَمَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَأْكُلُوا خَلَّ خَمْرٍ إلَّا خَمْرًا بَدَأَ اللَّهُ بِفَسَادِهَا، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ خَلِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ. فَهَذَا عُمَرُ يَنْهَى عَنْ خَلِّ الْخَمْرِ الَّتِي قُصِدَ إفْسَادُهَا، وَيَأْذَنُ فِيمَا بَدَأَ اللَّهُ بِإِفْسَادِهَا، وَيُرَخِّصُ فِي اشْتِرَاءِ خَلِّ الْخَمْرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُفْسِدُونَ خَمْرَهُمْ، وَإِنَّمَا يَتَخَلَّلُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِمْ، وَفِي قَوْلِ عُمَرَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُقَالَ: الصَّحَابَةُ كَانُوا أَطْوَعَ النَّاسِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلِهَذَا لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَمْرَ أَرَاقُوهَا، فَإِذَا كَانُوا مَعَ هَذَا قَدْ نُهُوا عَنْ تَخْلِيلِهَا وَأُمِرُوا بِإِرَاقَتِهَا فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ أَوْلَى مِنْهُمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُمْ. يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَلَّظَ عَلَى النَّاسِ الْعُقُوبَةَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ، حَتَّى كَانَ يَنْفِي فِيهَا: لِأَنَّ أَهْلَ زَمَانِهِ كَانُوا أَقَلَّ اجْتِنَابًا لَهَا مِنْ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَيْفَ يَكُونُ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute