لَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَهُ أَقَلُّ اجْتِنَابًا لِلْمَحَارِمِ، فَكَيْفَ تُسَدُّ الذَّرِيعَةُ عَنْ أُولَئِكَ الْمُتَّقِينَ، وَتُفْتَحُ لِغَيْرِهِمْ، وَهُمْ أَقَلُّ تَقْوًى مِنْهُمْ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى: «خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ» فَهَذَا الْكَلَامُ لَمْ يَقُلْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَلَكِنْ هُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ خَلَّ الْخَمْرِ لَا يَكُونُ فِيهَا مَاءٌ، وَلَكِنْ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِي بَدَأَ اللَّهُ بِقَلْبِهِ. وَأَيْضًا فَكُلُّ خَمْرٍ يُعْمَلُ مِنْ الْعِنَبِ بِلَا مَاءٍ فَهُوَ مِثْلُ خَلِّ الْخَمْرِ. وَقَدْ وَصَفَ الْعُلَمَاءُ عَمَلَ الْخَلِّ أَنَّهُ يُوضَعُ أَوَّلًا فِي الْعِنَبِ شَيْءٌ يُحَمِّضُهُ حَتَّى لَا يَسْتَحِيلَ أَوَّلًا خَمْرًا، وَلِهَذَا تَنَازَعُوا فِي خَمْرَةِ الْخِلَالِ، هَلْ يَجِبُ إرَاقَتُهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، أَظْهَرُهُمَا وُجُوبُ إرَاقَتِهَا كَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ خَمْرَةٌ مُحْتَرَمَةٌ، وَلَوْ كَانَ لِشَيْءٍ مِنْ الْخَمْرِ حُرْمَةٌ لَكَانَتْ الْخَمْرُ لِلْيَتَامَى الَّتِي اُشْتُرِيَتْ لَهُمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِاجْتِنَابِ الْخَمْرِ، فَلَا يَجُوزُ إفْسَادُهَا، وَلَا يَكُونُ فِي بَيْتِ مُسْلِمٍ خَمْرٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ فِي التَّخْلِيلِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدَ أَنَّ التَّخْلِيلَ إصْلَاحٌ لَهَا: كَدِبَاغِ الْجِلْدِ النَّجِسِ. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: اقْتِنَاؤُهَا لَا يَجُوزُ، لَا لِتَخْلِيلٍ وَلَا غَيْرِهِ، لَكِنْ إذَا صَارَتْ خَلًّا فَكَيْفَ تَكُونُ نَجِسَةً. وَبَعْضُهُمْ قَالَ: إذَا أُلْقِيَ فِيهَا شَيْءٌ تَنَجَّسَ أَوَّلًا، ثُمَّ تَنَجَّسَتْ بِهِ ثَانِيًا، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُلْقَ فِيهَا شَيْءٌ، فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّنْجِيسَ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْقَوْلِ الرَّاجِحِ فَقَالُوا: قَصْدُ الْمُخَلِّلِ لِتَخْلِيلِهَا الْمُوجِبِ لِتَنْجِيسِهَا، فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ اقْتِنَائِهَا وَأَمَرَ بِإِرَاقَتِهَا، فَإِذَا قَصَدَ التَّخْلِيلَ كَانَ قَدْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، وَغَايَةُ مَا يَكُونُ تَخْلِيلُهَا كَتَذْكِيَةِ الْحَيَوَانِ، وَالْعَيْنُ إذَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً لَمْ تَصِرْ مُحَلَّلَةً بِالْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِلنِّعْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْحَيَوَانُ مُحَرَّمًا قَبْلَ التَّذْكِيَةِ، وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِالتَّذْكِيَةِ، فَلَوْ ذَكَّاهُ تَذْكِيَةً مُحَرَّمَةً، مِثْلُ أَنْ يُذَكِّيَهُ فِي غَيْرِ الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ أَوَّلًا يَقْصِدُ ذَكَاتَهُ، أَوْ يَأْمُرَ وَثَنِيًّا، أَوْ مَجُوسِيًّا بِتَذْكِيَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يُبَحْ. وَكَذَلِكَ الصَّيْدُ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لَمْ يَصِرْ ذَكِيًّا، فَالْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ تَكُونُ طَاهِرَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute