للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طَالَ الزَّمَانُ وَصَحَّ أَمْرُهَا فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، لِأَنَّهُ مَنْ قَصَدَ الشِّرَاءَ مِنْهُ بِتِلْكَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَقْصِدْ تَمْلِيكَ الثَّمَنِ، وَلِهَذَا لَا يُحْتَاطُ فِي النَّقْدِ وَالْوَزْنِ فَمَتَى بَدَا لَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُفَارَقَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجِدَ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَلَلٌ، ثُمَّ إنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَمَلُوا هَذَا الْمَنْعَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَقَالَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ حِيلَةٍ وَمُوَاطَأَةٍ لَمْ يَحْرُمْ، وَقَدْ أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْكَرْمَانِيُّ. قَالَ قُلْت لِأَحْمَدَ: رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ ذَهَبًا ثُمَّ بَاعَهُ مِنْهُ؟ قَالَ: يَبِيعُهُ مِنْ غَيْرِهِ أَعْجَبُ إلَيَّ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ أَحْمَدَ لَمْ يَكْرَهْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الرَّجُلِ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَفْعَلُ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْ الصَّرْفِ، وَهَذَا إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ فَإِنَّ ابْنَ سِيرِينَ مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ فَلَا يَنْقُلُ الْكَرَاهَةَ الْمُطْلَقَةَ إلَّا عَنْ الصَّحَابَةِ.

وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَكْسُ مَسَائِلِ الْعِينَةِ وَهِيَ فِي رِبَا الْفَضْلِ كَمَسَائِلِ الْعِينَةِ فِي رِبَا النَّسَاءِ، لِأَنَّ هَذَا يَبِيعُ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ بِهِ، وَمِثْلُهَا فِي رِبَا النَّسَاءِ أَنْ يَبِيعَ رِبَوِيًّا بِنَسِيئَةٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَا لَا يُبَاعُ بِهِ نَسِيئَةً - وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا عَدَّهَا مِنْ الرِّبَا الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِثْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا، وَأَظُنُّهُ مَأْثُورًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فَفِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ قَدْ عَادَ الثَّمَنُ إلَى الْمُشْتَرِي وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ، أَوْ رِبَا النَّسَاءِ، وَفِي مَسَائِلِ الْعِينَةِ قَدْ عَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ وَأَفْضَى إلَى رِبَا الْفَضْلِ وَالنَّسَاءِ جَمِيعًا. ثُمَّ إنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَقْصِدْ الثَّمَنَ وَلَا الْمَبِيعَ، وَإِنَّمَا جَعَلَ وَصْلَةً إلَى الرِّبَا فَهَذَا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ هُنَا بَاطِلٌ فَلَا يُوقَفُ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يُبْطِلُ الْحِيَلَ، وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ كَثِيرٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ قَدْ جَعَلَ فِي صِحَّتِهِ وَجْهَيْنِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الصَّوَابُ، وَإِنَّمَا تَرَدَّدَ مَنْ تَرَدَّدَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا يُنْصَبُ الْخِلَافُ فِيهَا فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ صَحِيحٌ.

وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فَلَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ، وَلَهَا مَأْخَذٌ آخَرُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ كَوْنُ الثَّمَنِ إذَا لَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>