أَشْتَرِيَ مِنْك بِالتَّمْرِ الرَّدِيءِ تَمْرًا جَيِّدًا فَيَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِكَذَا دِرْهَمًا وَيَعْنِي بِالدَّرَاهِمِ كَذَا تَمْرًا جَيِّدًا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ مِلْكَ الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ الدَّرَاهِمُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا الْقَصْدُ بَيْعُ تَمْرٍ بِتَمْرٍ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ قَدْ مَضَى.
يُبَيِّنُ هَذَا: أَنَّ مِثْلَ هَذَيْنِ قَدْ يَتَرَاضَيَانِ أَوَّلًا عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ ثُمَّ يَجْعَلَانِ الدَّرَاهِمَ مُحَلِّلًا، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ مَأْمُورٌ بِالِانْتِقَادِ وَالِاتِّزَانِ وَالْقَبْضِ مَعَ الْقَرِينَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَقْدِ.
وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ رَدَّ الثَّمَنِ إلَيْهِ لَمْ يُحَرِّرْ النَّقْدَ وَالْوَزْنَ وَالْقَبْضَ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْإِطْلَاقِ لَا يُسَمَّى بَيْعًا، وَلَوْ قَالَ النَّاسُ: فُلَانٌ بَاعَ دَارِهِ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ إلَّا صُورَةٌ لَا حَقِيقَةَ لَهَا فَلَا تَدْخُلُ هَذِهِ الصُّورَةُ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ لِانْتِفَاءِ مُسَمَّى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، وَمَتَى تَوَاطَأَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِالثَّمَنِ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْحَدِيثِ.
يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا، وَهَذَا يَقْتَضِي بَيْعًا يُنْشِئُهُ وَيَبْتَدِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ، وَمَتَى وَاطَأَهُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عَلَى أَنْ أَبِيعَك وَأَبْتَاعَ مِنْك فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى الْعَقْدَيْنِ مَعًا فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي حَدِيثِ الْأَمْرِ بَلْ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ، وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى تَقْرِيرُ أَنَّ الشُّرُوطَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْعُقُودِ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَارِنِهَا وَمُتَقَدِّمِهَا.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ:
أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ عُمُومًا لَفْظِيًّا فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِصُوَرٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى، فَإِنَّ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَا يَدْخُلُهَا فِيهِ فَيُضْعِفُ دَلَالَتَهُ وَيَخُصُّ مِنْهُ الصُّوَرَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ نُصُوصٌ فِي بُطْلَانِ الْحِيَلِ وَهِيَ مِنْ الصُّوَرِ الْمَكْثُورَةِ فَإِخْرَاجُهَا مِنْ الْعُمُومِ مِنْ أَسْهَلِ الْأَشْيَاءِ، وَانْظُرْ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» فَإِنَّهُ عَامٌّ عُمُومًا لَفْظِيًّا وَمَعْنَوِيًّا. لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَلَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ آخَرُ، فَأَيُّمَا أُوِّلَ بِالتَّخْصِيصِ هُوَ أَوْ قَوْلُهُ: «بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى. بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ. وَقَدْ خَرَجَ مِنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute