الْبَيْعِ وَمَوَانِعِهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ. أَوْ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ يَفْهَمُ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى نَفْيِ شَرْطٍ مَخْصُوصٍ كَمَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى نَفْيِ سَائِرِ الشُّرُوطِ، وَمَا هَذَا إلَّا بِمَثَابَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: ١٨٧] . فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ حِلِّ الْأَكْلِ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ عَلَى حَدِّ نَوْعِ الْمَأْكُولَاتِ، أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْأَكْلِ كَانَ مُبْطِلًا، إذْ لَا عُمُومَ فِي اللَّفْظِ لِذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ سَوَاءً وَلَيْسَ الْغَالِبُ أَنَّ بَائِعَ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ يَبْتَاعُ بِهَا مِنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى يُقَالَ: هَذِهِ الصُّورَةُ غَالِبَةٌ فَكَانَ يَنْبَغِي التَّحْذِيرُ مِنْهَا كَمَا حَذَّرَ السَّلَفُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ، لِأَنَّ سِعْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْغَالِبِ مَعْرُوفٌ، وَالْغَالِبُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ نَقْدًا لِيَشْتَرِيَ نَقْدًا آخَرَ إذَا بَاعَهُ لِلصَّيْرَفِيِّ بِذَهَبٍ ابْتَاعَ بِالذَّهَبِ مِنْهُ النَّقْدَ الْآخَرَ وَلِهَذَا حَذَّرُوا مِنْهُ، وَأَمَّا التَّمْرُ وَالْبُرُّ وَنَحْوُهُمَا مِنْ الْعُرُوضِ فَإِنَّ مَنْ يَقْصِدُ بَيْعَهُ لَا يَقْصِدُ بِهِ مُشْتَرِيًا مَخْصُوصًا. بَلْ يَعْرِضُهُ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ عَامَّةً. أَوْ يَضَعُهُ حَيْثُ يَقْصِدُونَهُ، أَوْ يُنَادِي عَلَيْهِ، فَإِذَا بَاعَهُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فَقَدْ تَكُونُ عِنْدَهُ السِّلْعَةُ الَّتِي يُرِيدُهَا وَقَدْ لَا تَكُونُ.
وَمِثْلُ هَذَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ: بِعْ هَذِهِ الثِّيَابَ الْكَتَّانَ وَاشْتَرِ لَنَا بِالثَّمَنِ ثِيَابَ قُطْنٍ. أَوْ بِعْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ الْعَتِيقَةَ وَاشْتَرِ لَنَا بِالثَّمَنِ جَدِيدَةً لَا يَكَادُ يَخْطِرُ بِبَالِهِ الِاشْتِرَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَلْ يَشْتَرِي مِنْ حَيْثُ وَجَدَ غَرَضَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ أَغْلَبَ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَهُ، فَالْغَرَضُ فِي بَيْعِ الْعُرُوضِ أَوْ ابْتِيَاعِهَا لَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْأَثْمَانِ.
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ صُورَةً قَلِيلَةً لَمْ يَجِبْ التَّحْذِيرُ مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لَهَا كَمَا لَوْ يُحَذِّرُ مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ، وَلِهَذَا إنَّمَا يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي الصَّرْفِ، لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ لَهُ إشْعَارٌ بِالِابْتِيَاعِ مِنْ الْمُشْتَرِي أَلْبَتَّةَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ:
أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بِعْ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ» إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْبَيْعُ الْمَقْصُودُ الْخَالِي عَنْ شَرْطٍ يَمْنَعُ كَوْنَهُ مَقْصُودًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ الَّذِي لَا يُقْصَدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: بِعْت هَذَا الثَّوْبَ، أَوْ بِعْ هَذَا الثَّوْبَ لَمْ يُفْهَمْ مِنْهُ بَيْعُ الْمُكْرَهِ وَلَا بَيْعُ الْهَازِلِ.
وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْبَيْعُ الَّذِي قُصِدَ بِهِ نَقْلُ الْمِلْكِ، فَإِذَا جَاءَ إلَى تَمَّارٍ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute