الثَّمَنِ الرِّبَوِيِّ بَيْعٌ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الِاشْتِرَاءُ مِنْ غَيْرِهِ، أَوْ الِاشْتِرَاءُ مِنْهُ بَعْدَ بَيْعِهِ بَيْعًا مَقْصُودًا ثَابِتًا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشِّرَاءَ مِنْهُ. الْوَجْهُ الثَّانِي:
أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِيهِ عُمُومٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: «وَابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا» وَالْأَمْرُ بِالْحَقِيقَةِ الْمُطْلَقَةِ لَيْسَ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ قُيُودِهَا. لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَقَدْرُ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ هُوَ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ عَنْ الْآخَرِ وَلَا هُوَ مُلْتَزَمًا لَهُ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالْمُشْتَرَكِ أَمْرًا بِالْمُمَيَّزِ بِحَالٍ، نَعَمْ مُسْتَلْزِمٌ لِبَعْضِ تِلْكَ الْقُيُودِ لَا بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ عَامًّا لَهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لِلْأَفْرَادِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، فَقَوْلُهُ مَعَ هَذَا: الثُّبُوتُ لَا يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِبَيْعِهِ مِنْ زَيْدٍ، أَوْ عَمْرٍ وَلَا بِكَذَا، أَوْ كَذَا وَلَا بِهَذَا السُّوقِ، أَوْ هَذِهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكِنْ إذَا أَتَى بِالْمُسَمَّى حَصَلَ مُمَثَّلًا مِنْ جِهَةٍ وَجَدَّدَ تِلْكَ الْحَقِيقَةَ لَا مِنْ جِهَةِ وُجُودِ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا خِلَافَ فِيهِ، لَكِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنَّ عَدَمَ الْأَمْرِ بِالْقُيُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْإِجْزَاءِ إذَا أَتَى بِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَهَذَا خَطَأٌ.
إذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ: فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَلَا أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَاعَ مِنْ غَيْرِهِ فَالْحَدِيثُ لَا يَدُلُّ لَفْظُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ، وَلَا عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مُطَابَقَةً وَلَا تَضَامُنًا وَلَا الْتِزَامًا، كَمَا لَا يَدُلُّ عَلَى بَيْعِهِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ، أَوْ تَرْكِ قَبْضِهِ وَبَيْعِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ دُونَ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَبِنَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ غَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَبِثَمَنٍ حَالٍّ، أَوْ مُؤَجَّلٍ. فَإِنَّ هَذِهِ الْقُيُودَ خَارِجَةٌ عَنْ مَفْهُومِ اللَّفْظِ، وَلَوْ زَعَمَ زَاعِمٌ أَنَّ اللَّفْظَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ كَانَ مُبْطِلًا لَكِنَّ اللَّفْظَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ إذَا أَتَى بِهَا، وَإِنَّمَا اُسْتُفِيدَ عَدَمُ الِامْتِثَالِ إذَا بِيعَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ، أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ، وَالْأَمْرُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ الْعُرْفِ الَّذِي يُثْبِتُ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ يَبِيعُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ مِنْهُ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ أُخْرَى مُنْفَصِلَةٍ فِيمَا أَبَاحَتْهُ الشَّرِيعَةُ جَازَ فِعْلُهُ وَمَا لَا فَلَا.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَوْ كَانَ الِابْتِيَاعُ مِنْ الْمُشْتَرِي حَرَامًا لَنَهَى عَنْهُ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ بَيَانَ الطَّرِيقِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ شِرَاءُ التَّمْرِ الْجَيِّدِ لِمَنْ عِنْدَهُ رَدِيءٌ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الرَّدِيءَ بِثَمَنٍ، ثُمَّ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ جَيِّدًا.
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِشُرُوطِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute