وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِثْلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ.
فَإِذَا كَانَتْ النَّصِيحَةُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَاجِبَةً وَغِشُّهُ حَرَامًا، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُحْتَالَ لَيْسَ بِنَاصِحٍ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ غَاشٌّ لَهُ، بَلْ الْحِيلَةُ أَكْبَرُ مِنْ تَرْكِ النُّصْحِ وَأَقْبَحُ مِنْ الْغِشِّ، وَهَذَا بَيِّنٌ يَظْهَرُ مِثْلُهُ فِي الْحِيَلِ الَّتِي تُبْطِلُ الْحُقُوقَ الَّتِي ثَبَتَتْ. أَوْ تَمْنَعُ الْحُقُوقَ أَنْ تَثْبُتَ. أَوْ تُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ لِيَجِبَ، وَعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَّا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَالصِّدْقُ يَعُمُّ الصِّدْقَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَالْبَيَانُ يَعُمُّ بَيَانَ صِفَاتِ الْمَبِيعِ وَمَنَافِعِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ، وَإِذَا كَانَ الصِّدْقُ وَالْبَيَانُ وَاجِبَيْنِ فِي الْمُعَامَلَةِ مُوجِبَيْنِ لِلْبَرَكَةِ. وَالْكَذِبُ وَالْكِتْمَانُ مُحَرَّمَيْنِ مَاحِقَيْنِ لِلْبَرَكَةِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ أَوْ أَكْثَرَهَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِوُقُوعِ الْكَذِبِ، أَوْ الْكِتْمَانِ أَوْ تَجْوِيزِهِ، وَأَنَّهَا مَعَ وُجُوبِ الصِّدْقِ، أَوْ وُقُوعِهِ لَا تَتِمُّ.
مِثَالُ ذَلِكَ إذَا احْتَالَ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ نَسِيئَةً، أَوْ يَبِيعَهَا بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ نَسِيئَةً ثُمَّ يَشْتَرِيَهَا بِأَلْفٍ نَقْدًا، فَإِنْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَصْدُقَ الْآخَرَ، كَانَ الْوَفَاءُ بِهَذَا وَاجِبًا، فَيَلْزَمُ فَسَادُ الْعَقْدِ بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ لَازِمٌ فِي الْعَقْدِ أَبْطَلَ الْعَقْدَ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ جُوِّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُفَ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَقَدْ جُوِّزَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكْذِبَ صَاحِبَهُ وَهُوَ رُكُوبٌ لِمَا حَرَّمَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا نَوْعٌ مِنْ الْكَذِبِ قَوْله تَعَالَى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: ٧٧] ، وَإِنَّمَا كَذَّبَهُمْ إخْلَافُ قَوْلِهِمْ: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: ٧٥] . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَزْمِ أَحَدِهِمَا أَنْ لَا يَفِيَ لِلْآخَرِ بِمَا تَوَاطَآ عَلَيْهِ. فَإِنْ جَازَ كَتْمُ هَذَا وَتَرْكُ بَيَانِهِ فَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِلْحَدِيثِ. وَإِنْ وَجَبَ إظْهَارُهُ لَمْ تَتِمَّ الْحِيلَةُ فَإِنَّ الْآخَرَ لَمْ يَرْضَ إلَّا إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْآخَرَ يَفِي لَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute