إبْرَاهِيمَ مَوْلَى صَخْرِ بْنِ رُهْمٍ الْعَدَوِيُّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَبَايَعُوا وَقُولُوا لَا خِلَابَةَ» فَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَا دَلَائِلَ عَلَى صِدْقِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ مَشْرُوعٌ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ يُخَالِفُ مُطْلَقَ النَّقْدِ لَمْ يُؤْمَرْ بِاشْتِرَاطِهِ كُلُّ وَاحِدٍ كَالتَّأْجِيلِ فِي الثَّمَنِ وَاشْتِرَاطِهِ الرَّهْنَ، وَالْكَفِيلَ، وَصِفَاتٍ زَائِدَةٍ فِي الْعُقُودِ عَلَيْهِ.
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «غَبْنُ الْمُسْتَرْسِلِ رِبًا» وَحَدِيثُ التَّلَقِّي يُوَافِقُ هَذَا الْحَدِيثَ. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ الْخِلَابَةَ وَهِيَ الْخَدِيعَةُ فَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخِلَابَةِ فِي الْبَيْعِ وَفِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنْ عَمَّ ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى فَلَا كَلَامَ، إنْ كَانَ إنَّمَا قَصَدَ بِهِ الْخِلَابَةَ فِي الْبَيْعِ فَالْخِلَابَةُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ وَالْأَقْوَالِ وَفِي الْأَفْعَالِ بِمَنْزِلَةِ الْخِلَابَةِ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مُؤَثِّرٌ فِي اعْتِبَارِ الشَّارِعِ وَهَذَا الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، بَلْ الْخِلَابَةُ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ قَدْ تَكُونُ أَعْظَمَ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ وَقِيَاسِ الْأَوْلَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْحِيَلُ خِلَابَةٌ إمَّا مَعَ الْخَلْقِ أَوْ مَعَ الْخَالِقِ، مِثْلَ مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْحِيَلِ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ أَعْرَابِيٍّ مَاءً بِثَمَنٍ غَالٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ وَكَانَ مَعَهُ سَوِيقٌ مَلْتُوتٌ بِزَيْتٍ فَقَالَ لَهُ أَتُرِيدُ أَنْ أُطْعِمَك سَوِيقًا؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَطْعَمَهُ فَعَطِشَ الْأَعْرَابِيُّ عَطَشًا شَدِيدًا وَطَلَبَ أَنْ يَسْقِيَهُ تَبَرُّعًا أَوْ مُعَاوِضًا فَامْتَنَعَ إلَّا بِثَمَنِ جَمِيعِ الْمَاءِ فَأَعْطَاهُ جَمِيعَ الثَّمَنِ بِشَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ إطْعَامَهُ ذَلِكَ السَّوِيقَ مُظْهِرٌ أَنَّهُ مُحْسِنٌ إلَيْهِ وَهُوَ يَقْصِدُ الْإِسَاءَةَ إلَيْهِ مِنْ أَقْبَحِ الْخِلَابَاتِ ثُمَّ امْتِنَاعُهُ مِنْ سَقْيِهِ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ حَرَامٌ، وَلَا يُقَالُ إنَّ الْأَعْرَابِيَّ أَسَاءَ إلَيْهِ بِمَنْعِهِ الْمَاءَ إلَّا بِثَمَنٍ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنْ كَانَ جَائِزًا لَمْ تَجُزْ مُعَاقَبَتُهُ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مَجَّانًا أَوْ بِثَمَنِ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الثَّانِي أَنْ يَسْقِيَهُ وَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَوْ أَنَّهُ اسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ وَرَدَّ عَلَيْهِ سَائِرَ الْمَاءِ أَوْ تَرَكَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ مِقْدَارَ ثَمَنِ الشَّرْبَةِ الَّتِي شَرِبَهَا هُوَ لَكَانَ، أَمَّا أَنْ يَأْخُذَ مَاءً إلَّا شَرْبَةً وَاحِدَةً وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ كُلَّهُ بِصُورَةٍ يَظْهَرُ لَهُ فِيهَا أَنَّهُ مُحْسِنٌ وَقَصْدُهُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الْخِلَابَةُ الْبَيِّنَةُ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَبِاضْطِرَارٍ يُعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحِيَلِ أَوْ أَكْثَرَهَا أَوْ عَامَّتَهَا مِنْ الْخِلَابَةِ وَهِيَ حَرَامٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَنْ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ.
وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ إذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute