فَإِذَا احْتَالَ الْمَرْءُ عَلَى حِلِّ الْمُحَرَّمِ أَوْ سُقُوطِ الْوَاجِبِ بِأَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا لَوْ عُمِلَ عَلَى وَجْهِهِ الْمَقْصُودِ بِهِ لَزَالَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ أَوْ سَقَطَ ذَلِكَ الْوَاجِبُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا أَصْلًا وَقَصْدًا وَيَكُونُ إنَّمَا عَمِلَهُ لِيُغَيِّرَ ذَلِكَ الْحُكْمَ أَصْلًا وَقَصْدًا فَقَدْ سَعَى فِي دِينِ اللَّهِ بِالْفَسَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بَطَلَ مَا فِيهِ مِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ نَقَصَ حُكْمُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُحْتَالَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةً وَلَا كَانَ مَقْصُودًا بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ مُحَصِّلًا لِحِكْمَةِ الشَّارِعِ فِيهِ وَمَقْصُودِهِ فَصَارَ مُفْسِدًا بِسَعْيِهِ فِي حُصُولِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ حَقِيقَةُ الْمُحَرَّمِ وَمَعْنَاهُ مَوْجُودًا فِيهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الصُّورَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مُصْلِحًا بِالْأَمْرِ الْمُحْتَالِ بِهِ إذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ عِنْدَهُ وَلَا مَقْصُودَةٌ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ إذَا أُتِيَتْ عَلَى وُجُوهِهَا فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَالَ الْمُسْلِمِ ثُمَّ أَبَاحَهُ لَهُ بِالْبَيْعِ الْمَقْصُودِ فَإِذَا ابْتَاعَهُ بَيْعًا مَقْصُودًا لَمْ يَأْتِ بِصُورَةِ الْمُحَرَّمِ وَلَا بِمَعْنَاهُ وَالسَّبَبُ الَّذِي اسْتَبَاحَهُ بِهِ أَتَى بِهِ صُورَةً وَمَعْنًى كَمَا شَرَعَهُ الشَّارِعُ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا وَالزِّنَا وَتَوَابِعَهُمَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي تُفْضِي إلَى ذَلِكَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ وَالِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ، وَأَبَاحَ الْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَرْقٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِلَّا لَكَانَ الْبَيْعُ مِثْلَ الرِّبَا.
وَالْفَرْقُ فِي الصُّورَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْمَعَانِي وَالْمَقَاصِدِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ إذَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهَا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا وَلَوْ اتَّفَقَتْ أَلْفَاظُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَعَانِيهَا كَانَ حُكْمُهَا مُخْتَلِفًا، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ لَوْ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا وَاتَّفَقَتْ مَقَاصِدُهَا كَانَ حُكْمُهَا وَاحِدًا فِي حُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالْقَرْضَ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا الْمِلْكَ الْبَتَاتَ كَانَتْ مُسْتَوِيَةً فِي حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَوِيَةً فِي ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ اسْتَوَتْ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقْصِدِ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ خَاصَّةً لَيْسَ لِلْآخَرِ وَلَوْ اتَّفَقَتْ صُوَرُهَا وَاخْتَلَفَتْ مَقَاصِدُهَا كَالرَّجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ أَحَدُهُمَا يَبْتَغِي بِهَا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقَ وَطَلَبَ مَا عِنْدَ اللَّهِ وَالْآخَرُ يَبْتَغِي بِهَا حَقْنَ دَمِهِ وَمَالِهِ، وَالرَّجُلَيْنِ يُهَاجِرَانِ إلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute