الْقَصْدِ وَعَدَمِهِ، وَلِئَلَّا يَفْعَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ قَصْدٍ خَفِيٍّ يَخْفَى مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
وَلِلشَّرِيعَةِ أَسْرَارٌ فِي سَدِّ الْفَسَادِ وَحَسْمِ مَادَّةِ الشَّرِّ لِعِلْمِ الشَّارِعِ مَا جُلِبَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ وَبِمَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ مِنْ خَفِيِّ هُدَاهَا الَّذِي لَا يَزَالُ يَسْرِي فِيهَا حَتَّى يَقُودَهَا إلَى الْهَلَكَةِ، فَمَنْ تَحَذْلَقَ عَلَى الشَّارِعِ وَاعْتَقَدَ فِي بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ أَنَّهُ إنَّمَا حُرِّمَ لِعِلَّةِ كَذَا وَتِلْكَ الْعِلَّةُ مَقْصُودَةٌ فِيهِ فَاسْتَبَاحَهُ بِهَذَا التَّأْوِيلِ فَهُوَ ظَلُومٌ لِنَفْسِهِ جَهُولٌ بِأَمْرِ رَبِّهِ وَهُوَ إنْ نَجَا مِنْ الْكُفْرِ لَمْ يَنْجُ غَالِبًا مِنْ بِدْعَةٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ قِلَّةِ فِقْهٍ فِي الدِّينِ وَعَدَمِ بَصِيرَةٍ.
أَمَّا شَوَاهِدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ، فَنَذْكُرُ مِنْهَا مَا حَضَرَ. فَالْأَوَّلُ: قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: ١٠٨] حَرَّمَ سَبَّ الْآلِهَةِ مَعَ أَنَّهُ عِبَادَةٌ لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إلَى سَبِّهِمْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ تَرْكِهِمْ سَبَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لِآلِهَتِهِمْ. الثَّانِي: مَا رَوَى حُمَيْدٍ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: «إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ» فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّجُلَ سَابًّا لَاعِنًا لِأَبَوَيْهِ إذَا سَبَّ سَبًّا يُجْزِيهِ النَّاسُ عَلَيْهِ بِالسَّبِّ لَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَبَيْنَ هَذَا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ فَرْقٌ؛ لِأَنَّ سَبَّ أَبَا النَّاسِ هُنَا حَرَامٌ لَكِنْ قَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لِكَوْنِهِ شَتْمًا لِوَالِدَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُقُوقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ إثْمٌ مِنْ جِهَةِ إيذَاءِ غَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكُفُّ عَنْ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ مَعَ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى قَوْلِ النَّاسِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوجِبُ النُّفُورَ عَنْ الْإِسْلَامِ مِمَّنْ دَخَلَ فِيهِ وَمِمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَهَذَا النُّفُورُ حَرَامٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute