للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَانَ آثِمًا عَاصِيًا لِرَبِّهِ وَإِنْ قَبِلَ النَّاسُ مِنْهُ الظَّاهِرَ. كَالْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْبَلُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُ عَلَانِيَتَهُ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ. فَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُخَادِعُونَ بِعُقُودٍ ظَاهِرُهَا حَسَنٌ وَبَاطِنُهَا قَبِيحٌ هُمْ مُنَافِقُونَ بِذَلِكَ فَهُمْ آثِمُونَ عَاصُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ إنَّمَا تَجْرِي عَلَى الظَّاهِرِ وَنَحْنُ قَصَدْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أَنَّ الْحِيلَةَ مُحَرَّمَةٌ عِنْدَ اللَّهِ وَفِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ صَاحِبَهَا فَعَلَ مُحَرَّمًا وَهَذَا بَيِّنٌ.

الثَّانِي: أَنَّا إنَّمَا نَقْبَلُ مِنْ الرَّجُلِ ظَاهِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ إذَا لَمْ يُظْهِرْ لَنَا أَنَّ بَاطِنَهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِهِ، فَأَمَّا إذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ رَتَّبْنَا الْحُكْمَ عَلَى ذَلِكَ فَكُنَّا حَاكِمِينَ أَيْضًا بِالظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى الْبَاطِنِ لَا بِمُجَرَّدِ بَاطِنٍ، فَإِنَّا إذَا رَأَيْنَا تَيْسًا مِنْ التُّيُوسِ مَعْرُوفًا بِكَثْرَةِ التَّحْلِيلِ وَهُوَ مِنْ سِقَاطِ النَّاسِ دِينًا وَخُلُقًا وَدُنْيَا قَدْ زَوَّجَ فَتَاةَ الْحَيِّ الَّتِي يَنْتَخِبُ لَهَا الْأَكْفَاءَ بِصَدَاقٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ بِصَدَاقٍ يَبْلُغُ أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً لَا يُصْدَقُ مِثْلُهَا قَرِيبًا مِنْهُ ثُمَّ عَجَّلَ لَهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْخُلْعِ وَرُبَّمَا انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اسْتِعْطَافُ قَلْبِهِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ عُلِمَ قَطْعًا وُجُودُ التَّحْلِيلِ، وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُصَابٌ فِي عَقْلِهِ، وَكَذَلِكَ مِثْلُ هَذَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعِينَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَعِظَ فَاعِلَهُ وَيَنْهَاهُ عَنْ التَّحْلِيلِ وَيَسْتَفْسِرَهُ عَنْ جَلِيَّةِ الْحَالِ.

فَإِنْ قِيلَ: الِاحْتِيَالُ سَعْيٌ فِي اسْتِحْلَالِ الشَّيْءِ بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ. وَهَذَا جَائِزٌ. فَإِنَّ الْبَيْعَ احْتِيَالٌ عَلَى حِلِّ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحَ احْتِيَالٌ عَلَى الْبُضْعِ. وَهَكَذَا جَمِيعُ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهَا حِيَلٌ عَلَى حِلِّ مَا كَانَ حَرَامًا قَبْلَهَا، وَهَذَا جَائِزٌ. نَعَمْ مَنْ احْتَالَ عَلَى تَنَاوُلِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ فَهَذَا هُوَ الْحَرَامُ بِلَا رَيْبٍ، وَنَحْنُ إنَّمَا نَحْتَالُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مُبِيحٍ.

قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مُسْتَوْفًى لَمَّا ذَكَرْنَا أَقْسَامَ الْحِيَلِ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسَ عَشَرَ، وَذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا مِثْلُ قِيَاسِ الَّذِينَ قَالُوا، إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ بَعْضَ الْأَسْبَابِ طَرِيقًا إلَى مِلْكِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَمَا جَعَلَ الْبَيْعَ طَرِيقًا إلَى مِلْكِ الْمَالِ، وَالنِّكَاحَ طَرِيقًا إلَى مِلْكِ الْبُضْعِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَبِيحَ الشَّيْءَ بِطَرِيقِهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَالًا فَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحِيلَةِ فِي شَيْءٍ، إنَّمَا الْحِيلَةُ أَنْ يُبَاشِرَ السَّبَبَ لَا يَقْصِدَ بِهِ مَا جُعِلَ ذَلِكَ السَّبَبُ لَهُ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ اسْتِحْلَالَ أَمْرٍ آخَرَ لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ السَّبَبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِلسَّبَبِ الْمُبِيحِ لِذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>