الرَّقَبَةُ كَافِرَةً، أَوْ الْمَاءُ نَجِسًا وَهُوَ لَمْ يَعْلَمْ، لَمْ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ قَطُّ، وَلَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ لِمَا أُمِرَ بِهِ، وَلَكِنْ مَا أَمَرَهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الرِّقَابِ وَالْمِيَاهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِعَجْزِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَلَا أَمَرَهُ بِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَأْمُورًا فِي الْبَاطِنِ، بِالِانْتِقَالِ إلَى الْبَدَلِ الَّذِي هُوَ التُّرَابُ أَوْ الصِّيَامُ، لَكِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ.
فَإِذَا قَالَ صَاحِبُ هَذَا الِاعْتِقَادِ الْمُعَيَّنِ: بِأَنَّ هَذَا طَهُورٌ أَتَى مِنْ الشَّارِعِ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. قُلْنَا: أَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَعَلَيْك أَنْ تَفْعَلَهُ وَأَنْتَ مَأْمُورٌ بِهِ أَيْضًا. بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَأَمَّا فِي الْبَاطِنِ فَقَدْ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ. فَإِنْ قَالَ: أَنَا مُكَلَّفٌ بِالْبَاطِنِ، قُلْنَا: إنْ أَرَدْت بِالتَّكْلِيفِ أَنَّك تُذَمُّ وَتُعَاقَبُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْبَاطِنِ فَلَسْت بِمُكَلَّفٍ بِهِ.
وَإِنْ أَرَدْت أَنَّ مَا فِي الْبَاطِنِ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْك وَتَرْكُهُ يَقْتَضِي ذَمَّك وَعِقَابَك، وَلَكِنَّ انْتِفَاءَ مُقْتَضَاهُ لِوُجُودِ عُذْرِك وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ، فَنَعَمْ أَنْتَ مُكَلَّفٌ بِهِ، وَعَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّوْمِ؛ لِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ لَا لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ، وَأَنَّ الْخِلَافَ يَعُودُ إلَى اعْتِبَارٍ عَقْلِيٍّ وَإِطْلَاقٍ لَفْظِيٍّ، فَيَجُوزُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ النَّجِسَ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا هُوَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِنَجَاسَتِهِ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ لِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فِي الْبَاطِنِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا فِي الْبَاطِنِ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ تَأَدَّى بِهِ فَوُجُوبُ التَّعَيُّنِ مِنْ بَابِ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ، وَلَوَازِمُ الْوَاجِبِ وَمُقَدِّمَاتُهُ لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ وَاجِبَةً وُجُوبًا شَرْعِيًّا مَقْصُودًا لِلْأَمْرِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَا يَطْلُبُهَا وَلَا يَقْصِدُهَا بِحَالٍ، وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهَا إذَا كَانَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ وَالْمَأْمُورُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا، فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ صَوْمِ النَّهَارِ لَا عَلَى تَرْكِ إمْسَاكِ طَرَفَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ، كَمَا يُعَاقَبُ ذُو الْمَسَافَةِ الْقَرِيبَةِ أَوْ أَقَلَّ، وَلَا يُعَاقَبُ أَكْثَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَرَكَ قَطْعَ تِلْكَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ. نَعَمْ يُثَابُ أَكْثَرُ وَقَدْ يُثَابُ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، لَكِنْ الْوُجُوبُ الْعَقْلِيُّ الضَّرُورِيُّ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute