للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِاتِّبَاعِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُ دَلِيلِهِ اعْتِقَادُ مُوجَبِهِ فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ أَنَّ الْحَاكِمَ إذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ مَنْ يَعْتَقِدُهُ عَدْلًا فَقَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ ظَاهِرًا، وَمَنْ قَالَ: لَيْسَ بِمُصِيبٍ فِي الْحُكْمِ قَالَ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ اتِّبَاعِ هَذَا الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ هُوَ لِلْوُجُوبِ اللُّزُومِيِّ الْعَقْلِيِّ دُونَ الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ الْمَقْصُودِ، وَإِلَّا فَالْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ هُوَ اتِّبَاعُ حُكْمِ اللَّهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ أَتَى مِنْ جِهَةِ عَجْزِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْخِلَافِ دَلِيلُهُ، فَإِنَّ مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ أَفْتَى بِهِ تَارَةً يَكُونُ الْمُحَدِّثُ لَهُ عَدْلًا حَافِظًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ فَهُنَا لَمْ يُؤْتَ مِنْ جِهَةِ نَظَرِهِ بَلْ دَلِيلُهُ أَخْلَفَ، وَتَارَةً يَعْتَقِدُ هُوَ أَنَّ الْمُحَدِّثَ ثِقَةٌ، وَلَا يَكُونُ ثِقَةً فَهُنَا اعْتِقَادُهُ خَطَأٌ، لِكَوْنِهِ دَلِيلًا غَيْرَ مُطَابِقٍ، وَإِنْ كَانَ مَعْذُورًا فِيهِ لِدَلِيلٍ اقْتَضَى ثِقَتَهُ، فَإِنَّ خَطَأَ هَذَا الدَّلِيلِ كَخَطَإِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ.

فَالْأَوَّلُ: حَكَمَ بِدَلِيلٍ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ دَلِيلُ الْمُجْتَهِدِ، لَكِنَّ اللَّهَ سَلَبَ دَلَالَتَهُ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَلَمْ يَظْهَرْ هَذَا عَلَى الْعِلْمِ السَّالِبِ، وَهَذَا كَالتَّمَسُّكِ بِشَرِيعَةٍ قَدْ نُسِخَتْ لَمْ يَعْلَمْ بِنَسْخِهَا، وَالثَّانِي حَكَمَ بِمَا اعْتَقَدَ دَلِيلًا وَلَمْ يَكُنْ دَلِيلًا، بَلْ قَامَ عِنْدَهُ مَا ظَنَّ كَوْنَهُ دَلِيلًا، كَمَا لَوْ كَانَ اللَّفْظُ مُعَرَّفًا بِاللَّامِ فَاعْتَقَدَهَا لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ فَجَعَلَهُ عَامًّا، وَكَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ، أَوْ كَانَ مَعْنَى اللَّفْظِ فِي لُغَتِهِ غَيْرَ مَعْنَاهُ فِي لُغَةِ الرَّسُولِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ لَهُ مَعْنًى إلَّا مَا فِي لُغَتِهِ، فَهَذَا حَكَمَ بِمَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا أَصْلًا، لَكِنَّهُ اعْتَقَدَ دَلَالَتَهُ فَالْأَوَّلُ حَكَمَ بِمُقْتَضًى عَارَضَهُ مَانِعٌ لَمْ يَعْلَمْهُ.

وَالثَّانِي: بِمَا لَيْسَ بِمُقْتَضًى لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُقْتَضًى، وَالْأَوَّلُ فِي اتِّبَاعِهِ لِلدَّلِيلِ، كَالْمُسْتَفْتِي فِي اتِّبَاعِهِ قَوْلَ مَنْ هُوَ مُفْتٍ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إذَا كَانَ قَدْ أَخْطَأَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُسْتَفْتِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الثَّانِي أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ وَفِي اعْتِقَادِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ لَكِنَّهُ أَخْطَأَ فِي اعْتِقَادِهِ، وَكِلَاهُمَا مُصِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ.

وَإِذَا عَرَفْت هَذِهِ الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ لِلْمُجْتَهِدِ: أُولَاهَا: اقْتِصَارُهُ بِحُكْمِ اللَّهِ. الثَّانِيَةُ: اجْتِهَادُهُ وَهُوَ اسْتِنْطَاقُ الْأَدِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِمَاعِ الْحَاكِمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَتَارَةً

<<  <  ج: ص:  >  >>