للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ الشَّيْءُ ثُمَّ يَطْلُبُ دَلِيلًا يُوَافِقُ مَا فِي قَلْبِهِ لِيَتَّبِعَهُ، وَمَبَادِئُ هَذِهِ الْعُلُومِ أُمُورٌ إلَهِيَّةٌ خَارِجَةٌ عَنْ قُدْرَةِ الْعَبْدِ {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: ١٠٥] ، فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الدَّلِيلُ مَنْصُوبًا لَكِنْ لَمْ يَسْتَدْرِكْ بِهِ الْمُكَلَّفُ لِقُصُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ يُعْذَرُ فِيهِ لِعَجْزٍ أَوْ مَشَقَّةٍ أَوْ شُغْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ اتَّفَقَ مَنْ قَالَ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّ الْبَاقِينَ لَمْ يُصِيبُوا الْحَقَّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ أَخْطَأَ هُنَا أَظْهَرُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الِاجْتِهَادِ هُنَا أَكْثَرُ. بَلْ غَالِبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِقِلَّةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ بَعْدَ انْتِشَارِ النُّصُوصِ.

الْمَقَامُ السَّادِسُ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ مَاذَا؟ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُ ذَلِكَ الْحَقِّ الْمُعَيَّنِ وَإِصَابَتُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ طَلَبُهُ لَا إصَابَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْوَاجِبُ اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ سَوَاءٌ كَانَ مُطَابِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ لَحَظَ جَانِبًا، وَجَمْعُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إصَابَةُ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي الظَّاهِرِ هُوَ اتِّبَاعُ مَا ظَهَرَ مِنْ الدَّلِيلِ وَاتِّبَاعُهُ أَنْ يَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ الَّذِي يَعْجِزُ مَعَهُ النَّاظِرُ عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الطَّلَبِ، أَوْ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَشَقَّةً فَادِحَةً وَمِقْدَارًا غَيْرَ مَضْبُوطٍ، وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ يَخَافُونَ فِي الْفَتْوَى بِالِاجْتِهَادِ كَثِيرًا وَيَخْشَوْنَ اللَّهَ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يُعْذَرُونَ مَعَهَا وَمِقْدَارَ الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي يُبِيحُ لَهُمْ الْقَوْلَ قَدْ لَا يَنْضَبِطُ فَلَوْ أَصَابَ الْحُكْمَ بِلَا دَلِيلٍ رَاجِحٍ فَقَدْ أَصَابَ الْحُكْمَ وَأَخْطَأَ الْحَقَّ الْمُعَيَّنَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ.

وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْحَقِّ هُوَ الرَّاجِحُ، لَكِنْ يَعْجِزُ عَنْ دَرْكِهِ وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّهُ نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ دَلِيلًا، وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالدَّلِيلُ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ حَقِيقَةً عَلَى الْحُكْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْلَفَ كَمَا يَجُوزُ خَطَأُ الشَّاهِدِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ وَيَظْهَرَ لَهُ غَيْرُهُ.

الْمَقَامُ السَّابِعُ: إذَا كَانَتْ الْحُجَّةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا مُعَارِضَ لَهَا أَصْلًا لَكِنَّهَا مُخَلَّفَةٌ فَهَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ بِهَا خَطَأً فِي الْبَاطِنِ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي أَعْيَانِ الْأَحْكَامِ لَا فِي أَنْوَاعِهَا، كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لَكِنْ كَانَا مُخْطِئَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ كَالشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ قَطَعَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السَّارِقَ بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ وَقَالَا أَخْطَأْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُنَا قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ، لَا يَكُونُ هَذَا خَطَأً بِحَالٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ سَلَّمَ

<<  <  ج: ص:  >  >>