فَنَقُولُ، قَدْ كَانَ تَقَدَّمَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعْنُهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ وَالنَّهْيَ عَنْ الْخِدَاعِ، وَفَهِمُوا مَقْصُودَهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَقُولَ لِكُلِّ مَنْ تَزَوَّجَ مُطَلَّقَةَ غَيْرِهِ، إنْ كُنْت نَوَيْت كَمَا أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ سُوءَ حَالِ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ كُلَّمَا أَسْلَمَ رَجُلٌ أَنْ يَقُولَ لَهُ هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ أَوْ مُنَافِقٌ، وَصَاحِبُ الْعَقْدِ لَمْ يُظْهِرْ لَهُمْ أَنَّهُ أَرَادَ الْإِحْلَالَ وَإِنَّمَا ظَنُّوهُ ظَنًّا، بَلْ لَمَّا فَهِمُوا مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مُرِيدَ الْإِحْلَالِ مُخَادِعٌ.
وَظَنُّوا بِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنَّهُ أَرَادَهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، هَذَا إنْ كَانَ لِذَلِكَ أَصْلٌ، ثُمَّ إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ أَمَارَاتٍ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخِدَاعِ وَهُوَ الْمَهْرُ وَمَا مَعَهُ وَلِأَنَّ الْمُحَلِّلَ يَأْخُذُ فِي الْعَادَةِ وَلَا يُعْطِي، وَإِلَّا فَتَسْمِيَةُ الْمَهْرِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ، حَتَّى يَتَرَتَّبَ عَدَمُ الْخِدَاعِ عَلَيْهَا، فَلَمَّا ذُكِرَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى انْتِفَاءِ الْخِدَاعِ فَصَارَ سُوءُ الظَّنِّ مَمْنُوعًا مِنْهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَدِيثُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فَهُوَ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى إبْطَالِ التَّحْلِيلِ أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَى صِحَّتِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا تَصَرُّفٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَهُمَا ثَابِتَانِ، وَأَهْلِيَّةُ الْمُتَصَرِّفِ وَمَحَلِّيَّةُ الزَّوْجَيْنِ ثَابِتَةٌ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَصْدُ الْمَقْرُونُ بِالْعَقْدِ، وَذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إبْطَالِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ إنَّمَا نَوَى الطَّلَاقَ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِالشَّرْعِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ نَوَى الْمُشْتَرِي إخْرَاجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّبَبَ مُقْتَضٍ لِتَأْبِيدِ الْمِلْكِ وَالنِّيَّةُ لَا تُغَيِّرُ مُوجَبَاتِ السَّبَبِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ النِّيَّةَ تُوجِبُ تَوْقِيتَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ هِيَ مُنَافِيَةً لِمُوجَبِ الْعَقْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَلَوْ نَوَى هُوَ بِالْمَبِيعِ إتْلَافَهُ أَوْ إحْرَاقَهُ أَوْ إغْرَاقَهُ لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، فَنِيَّةُ الطَّلَاقِ أَوْلَى، وَبِهَذَا اعْتَرَضُوا عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ قَصَدَ إزَالَةَ الْمِلْكِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْقَصْدَ لَا يَقْدَحُ فِي اقْتِضَاءِ السَّبَبِ حُكْمَهُ؛ لِأَنَّهُ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ، فَيَصِيرُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَصِيرًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَمْرًا أَوْ جَارِيَةً وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يُكْرِهَهَا عَلَى الْبِغَاءِ أَوْ يَجْعَلَهَا مُغَنِّيَةً قِنْيَةً أَوْ سِلَاحًا وَمِنْ نِيَّتِهِ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ مَعْصُومًا، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْ السَّبَبِ، فَلَا يَخْرُجُ الْمُسَبَّبُ عَنْ اقْتِضَاءِ حُكْمِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَصْدِ وَبَيْنَ الْإِكْرَاهِ، فَإِنَّ الرِّضَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ، وَالْإِكْرَاهُ يُنَافِي الرِّضَا، وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّرُوطِ الْمُقْتَرِنَةِ. فَإِنَّهَا تَقْدَحُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute