فَمَنْ {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ١١٥] ، وَهَبَ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ حُكْمًا وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ.
فَتَدَبَّرْ كَلَامَ هَذَا الْإِمَامِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْبَيَانِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا تَكَلُّمُهُ بِلَفْظِ مِنْ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ كَقَوْلِهِ: وَكَيْفَ يَكُونُ لِصِفَةِ شَيْءٍ مِنْهُ حَدٌّ أَوْ مُنْتَهًى يَعْرِفُهُ عَارِفٌ أَوْ يَحُدُّ قَدْرَهُ وَاصِفٌ فَذَكَرَ أَنَّ صِفَةَ شَيْءٍ مِنْهُ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ حَدَّهَا وَلَا قَدْرَهَا ثُمَّ قَالَ: الدَّلِيلُ عَلَى عَجْزِ الْعُقُولِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةِ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ فَجَعَلَ الصِّفَةَ هُنَا لَهُ لَا لِشَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْعَجْزِ عَنْ تَحْقِيقِ صِفَتِهِ عَجْزُهَا عَنْ تَحْقِيقِ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ تَمَّ أَمَرَ بِمَعْرِفَةِ مَا ظَهَرَ عِلْمُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالسُّكُوتِ عَمَّا لَمْ يَظْهَرْ عِلْمُهُ، وَذَمِّ مَنْ نَفَى مَا ذَكَرَ أَوْ تَكَلَّفَ عِلْمَ مَا لَمْ يُذْكَرْ، فَقَالَ: اعْرِفْ غِنَاك عَنْ تَكَلُّفِ صِفَةِ مَا لَمْ يَصِفْ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ بِعَجْزِك عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا وَصَفَ مِنْهَا فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَصِفْهُ وَنَهَى عَنْ تَكَلُّفِ صِفَتِهِ، لِأَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ مِنْ نَفْسِهِ يَعْجِزُ عَنْ مَعْرِفَةِ قَدْرِهِ، فَالْعَجْزُ عَمَّا لَمْ يُذْكَرْ أَوْلَى، قَالَ: إذَا لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ مَا وُصِفَ فَمَا كَلَّفَك عِلْمَ مَا لَمْ يَصِفْ، ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا الَّذِي جَحَدَ مَا وَصَفَ الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ تَعَمُّقًا وَتَكَلُّفًا فَصَارَ يُسْتَدَلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى جَحْدِ مَا وَصَفَ الرَّبُّ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ لَا بُدَّ إنْ كَانَ لَهُ كَذَا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ هَذَا فَجَحَدَ مَا سَمَّى الرَّبُّ مِنْ نَفْسِهِ لِصَمْتِ الرَّبِّ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْهَا فَذَكَرَ أَيْضًا فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الرَّبَّ وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ مَا وَصَفَ وَسَمَّى وَصَمَتَ عَمَّا لَمْ يُسَمِّ مِنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ الْجَهْمِيَّةَ يَجْحَدُونَ الْمَوْصُوفَ الْمُسَمَّى مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ كَذَا وَيَنْفُونَ اللَّازِمَ الَّذِي صَمَتَ الرَّبُّ عَنْهُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْجَهْمَيْ يُنْكِرُ الرُّؤْيَةَ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ إذَا تَجَلَّى لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا مِنْهُ مَا كَانُوا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنِينَ وَكَانَ لَهُ جَاحِدًا، فَذَكَرَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا صَدَقُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَجَحَدَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ، وَأَنَّ الْجَهْمَيَّ عَلِمَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ مَا جَحَدَهُ فَلِذَلِكَ أَنْكَرَهَا.
وَهَكَذَا فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ تَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ ذَلِكَ لَا رَيْبَ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَثْبَتَ الرُّؤْيَةَ وَوَافَقَ الْجَهْمَيَّ عَلَى نَفْيِ لَوَازِمِهَا مُخَالِفًا لِلْفِطْرَةِ الْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُقَلَاءِ الْمُثْبِتَةِ وَالنَّافِيَةِ، ثُمَّ قَالَ: لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، فَوَاَللَّهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى عِظَمِ مَا وَصَفَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَا تُحِيطُ بِهِ قَبْضَتُهُ إلَّا صِغَرُ نَظِيرِهَا مِنْهُمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute