للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلْت: وَهَذِهِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ وَذَلِكَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ كَانَ كَمَا يَزْعُمُهُ الْجَهْمِيُّ مَخْلُوقًا مُنْفَصِلًا كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَكَلَامِ الذَّارِعِ وَالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ لَكَانَ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ وَاجِبًا لَا سِيَّمَا وَعِنْدَ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ الَّذِي لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ وَقَدْ يَقُولُونَ إنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ وَاجِبَةٌ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الرِّسَالَةِ وَأَنَّ مَعْرِفَةَ الرِّسَالَةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِتَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ كَلَامٍ يَقُومُ بِهِ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَقُومُ إلَّا بِجِسْمٍ مُتَحَيِّزٍ وَنَفْيُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِالرَّسُولِ فَإِنَّ الْجِسْمَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثًا مَخْلُوقًا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَاجَةُ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ الْعِلْمَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ بَيَانُ ذَلِكَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَإِذَا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ قَطُّ مَعَ حَاجَةِ الْمُكَلَّفِينَ إلَيْهِ وَمَعَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ عِلْمُ أَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا وَاجِبًا وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ وَأَيْضًا فَلَمْ يَنْهَ الْعِبَادَ عَنْ أَنْ يُسَمُّوهُ كَلَامَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي خَلَقَهُ فِي جِسْمِ غَيْرِهِ وَالْجَهْمِيُّ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْكَلَامَ يُقَالُ لِمَنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِهِ كَمَا مَثَّلَهُ مِنْ تَكَلُّمِ الْجِنِّيِّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ فَهُوَ لَا يُنَازِعُ فِي أَنَّ غَالِبَ النَّاسِ لَا يَفْهَمُونَ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا مَا يَقُومُ بِالْمُتَكَلِّمِ بَلْ لَا يَعْرِفُونَ كَلَامًا مُنْفَصِلًا عَنْ مُتَكَلِّمِهِ قَطُّ وَأَمْرُ الْجِنِّيِّ فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ وَالنِّزَاعِ بَلْ بُطْلَانُ قَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ مِمَّا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ظَاهِرًا لِعُمُومِ النَّاسِ.

وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى قَوْلِ الْجَهْمِيِّ مَا نَهَى النَّاسُ عَنْ أَنْ يَقُولُوا الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ حَتَّى لَا يَقُولُوا بِالْبَاطِلِ وَأَمَّا الْبَيَانُ بِأَنَّ قَوْلَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ ذَلِكَ الْكَلَامَ فِي جِسْمِ غَيْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ أَنَّهُ خَلَقَ شَيْئًا فَعَبَّرَ عَنْهُ فَلَمَّا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهَذَا وَلَمْ يُنْهَوْا عَنْ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى هَذَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى زَعْمِ الْجَهْمِيُّ عُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ الْمُسْتَلْزِمَ لَازِمٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي لَمْ يَقَعْ مِنْ الشَّارِعِ بَاطِلٌ وَلِهَذَا كَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ الْخَطَابِيَّةِ كَيْفَ أَقُولُ مَا لَمْ يُقَلْ أَيْ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ قَبْلَنَا وَلَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ لَكَانَ قَوْلُهُ فَعَدَمُ قَوْلِ أُولَئِكَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَدْرَمِيِّ وَهُوَ الشَّيْخُ الْأَدْنَى الَّذِي قَدَّمَهُ ابْنُ أَبِي دَاوُد عَلَى الْوَاثِقِ فَنَاظَرَهُ أَمَامَهُ كَمَا حَكَاهُ ابْنُهُ الْمُهْتَدِي وَقَطَعَهُ الْأَدْنَى فِي الْمُنَاظَرَةِ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ وَقَالَ لِابْنِ أَبِي دَاوُد يَا أَحْمَدُ أَرَأَيْت مَقَالَتَك هَذِهِ الَّتِي تَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي عَقْدِ الدِّينِ لَا يَتِمُّ الدَّيْنُ إلَّا بِهَا وَهَلْ عَلِمَهَا رَسُولُ اللَّهِ

وَهَلْ أَمَرَ بِهَا وَهَلْ وَسِعَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>