وَوَسِعَ خُلَفَاءَهُ السُّكُوتُ عَنْهَا فَكَانَتْ هَذِهِ الْحُجَجُ كُلُّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَوْ كَانَ مِنْ الدِّينِ لَوَجَبَ بَيَانُهُ وَعَدَمُ ذَلِكَ مَعَ قِيَامِ الْمُقْتَضَى لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الدِّينِ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ الدِّينَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ وَبِسَائِرِ كَلَامِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْأَمْرُ وَجْهًا ثَالِثًا فَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الدِّينِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْآخَرُ مِنْ الدِّينِ وَهُوَ أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ فَمِنْهُ بَدَأَ وَمِنْهُ يَعُودُ وَمِنْهُ حَقَّ الْقَوْلُ وَمِنْ لَدُنْهُ نَزَلَ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا فِي جِسْمِ غَيْرِهِ لَكَانَ بِمَثَابَةِ مَا يَخْلُقُهُ فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالذِّرَاعِ وَالصَّخْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْسَامِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ أَيْ مِنْ خَلْقِهِ فَلَيْسَ مِنْ لَدُنْهُ وَلَا هُوَ قَوْلًا مِنْهُ وَلَا بَدَأَ مِنْهُ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقَدْ سَمَّتْ الْمَلَائِكَةُ كَلَامَ اللَّهِ كَلَامًا وَلَمْ تُسَمِّهِ خَلْقًا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ: ٢٣] .
وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمْ يَسْمَعُوا صَوْتَ الْوَحْيِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَهَا سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ فَلَمَّا أَوْحَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ الْمَلَائِكَةُ صَوْتَ الْوَحْيِ كَوَقْعِ الْحَدِيدِ عَلَى الصَّفَاءِ وَظَنُّوا أَنَّهُ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ فَفَزِعُوا وَخَرُّوا لِوُجُوهِهِمْ سُجَّدًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ: ٢٣] يَقُولُ حَتَّى إذَا تَجَلَّى الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبِهِمْ رَفَعَ الْمَلَائِكَةُ رُءُوسَهُمْ فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَقَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ وَلَمْ يَقُولُوا مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ فَهَذَا بَيَانٌ لِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ هُدَاهُ.
قُلْت: احْتَجَّ أَحْمَدُ بِمَا سَمِعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ الْوَحْيِ إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ كَمَا قَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ الْآثَارُ الْمُتَعَدِّدَةُ وَسَمِعُوا صَوْتَ الْوَحْيِ فَقَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ وَلَمْ يَقُولُوا مَاذَا خَلَقَ رَبُّكُمْ فَبَيَّنَ أَنَّ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِالْوَحْيِ الَّذِي سَمِعُوا صَوْتَهُ هُوَ قَوْلُهُ لَيْسَ هُوَ خَلْقُهُ وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ الْإِمَامُ صَاحِبُ الصَّحِيحِ إمَّا تَلَقِّيًا لَهُ عَنْ أَحْمَدَ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ مُوَافِقَةً اتِّفَاقِيَّةَ وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّحِيحِ وَفِي كِتَابِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَقَالَ فِي الصَّحِيحِ فِي آخِرِهِ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ بَابُ قَوْلِ اللَّهِ {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: ٢٣] .
وَلَمْ يَقُلْ مَاذَا خَلَقَ لَكُمْ وَقَالَ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} [البقرة: ٢٥٥] . قَالَ وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إذَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِالْوَحْيِ سَمِعَ أَهْلُ السَّمَوَاتِ شَيْئًا فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَ الصَّوْتُ عَرَفُوا أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وَنَادَوْا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute