للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا الْقَوْلَ وَجَدَهُمْ لَا يَبْحَثُونَ فِي الْغَالِبِ أَوْ فِي الْجَمِيعِ إلَّا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي مَا عَلِمْنَا لِقَائِلِهِ وُجُودًا وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُ الْحَالِفِ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ هَذِهِ الْمِائَةُ وَالْأَرْبَعَ عَشْرَةَ سُورَةً حُرُوفُهَا وَمَعَانِيهَا، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ هُوَ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي وَلَا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ، بَلْ هُوَ مَجْمُوعُ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي، وَأَنَّ تِلَاوَتَنَا لِلْحُرُوفِ وَتَصَوُّرَنَا لِلْمَعَانِي لَا يُخْرِجُ الْمَعَانِيَ، وَالْحُرُوفَ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُجُودِنَا، فَهَذَا مَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ.

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ الْمُسْلِمُونَ وَيَكْتُبُونَهُ فِي مَصَاحِفِهِمْ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ إذْ الْكَلَامُ يُضَافُ حَقِيقَةً لِمَنْ قَالَهُ مُتَّصِفًا بِهِ مُبْتَدَأً وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا وَهُوَ كَلَامٌ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِ مُبْتَدَأً لَا لِمَنْ بَلَّغَهُ مَرْوِيًّا فَإِنَّا بِاضْطِرَارٍ نَعْلَمُ مِنْ دِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِينِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ حُرُوفُ الْقُرْآنِ مَا هِيَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ اسْمٌ لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي لَأَنْكَرُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ إنَّ جَسَدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هُوَ دَاخِلٌ فِي اسْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا هُوَ اسْمٌ لِلرُّوحِ دُونَ الْجَسَدِ، أَوْ يَقُولُ إنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ اسْمًا لِحَرَكَاتِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَإِنَّمَا هِيَ اسْمٌ لِأَعْمَالِ الْقَلْبِ فَقَطْ.

وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الشِّهْرِسْتَانِيّ، وَهُوَ مَنْ أَخْبَرَ النَّاسَ بِالْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْمَقَالَاتِ فِي نِهَايَةِ الْأَقْدَامِ، أَنَّ الْقَوْلَ بِحُدُوثِ حُرُوفِ الْقُرْآنِ قَوْلٌ مُحْدَثٌ، وَأَنَّ مَذْهَبَ سَلَفِ الْأُمَّةِ نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ الطَّائِفَةِ الْقَائِلَةِ بِحُدُوثِهَا وَلَا يَحْسَبُ اللَّبِيبُ أَنَّ فِي الْعَقْلِ وَفِي السَّمْعِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ، بَلْ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَوَقَفَ عَلَى أَسْرَارِهَا عَلِمَ قَطْعًا أَنْ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يُكَذِّبُ قَطُّ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَ السَّلَفِ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ، بَلْ يُخَالِفُ مَا قَدْ يَتَوَهَّمُهُ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ بِظُلْمَةِ قُلُوبِهِمْ وَأَهْوَاءِ نُفُوسِهِمْ أَوْ مَا قَدْ يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ التَّقْوَى وَقِلَّةِ الدِّينِ، وَلَوْ فُرِضَ عَلَى سَبِيلِ التَّقْدِيرِ أَنَّ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا يُكَذِّبُ يُنَاقِضُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ لَلَزِمَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ إمَّا تَكْذِيبُ النَّاقِلِ أَوْ تَأْوِيلُ الْمَنْقُولِ، لَكِنْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ هَذَا لَمْ يَقَعْ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ قَطُّ فَإِنَّ حِفْظَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَأْبَى ذَلِكَ، نَعَمْ يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي أَحَادِيثَ وَضَعَتْهَا الزَّنَادِقَةُ لِيَشِينُوا بِهَا أَهْلَ الْحَدِيثِ كَحَدِيثِ عَرَقِ الْخَيْلِ وَالْجَمَلِ الْأَوْرَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>