للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذَا تُرْجِمَ بِالْعِبْرِيَّةِ أَوْ السُّرْيَانِيَّةِ هَلْ يَقُولُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ لَهُ دِينٌ إنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْمُنَزَّلَ بِالْأَلْسِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ مَعْنَاهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَالْكَلَامِ الَّذِي يُتَرْجَمُ بِأَلْسِنَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ. الْعِلْمُ بِفَسَادِ هَذَا مِنْ أَوْضَحِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَقَائِلُ هَذَا لَوْ تَدَبَّرَ مَا قَالَ لَعَلِمَ أَنَّ الْمَجَانِينَ، لَا يَقُولُونَ هَذَا، وَمِنْ الْمَعْلُومِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنَّ الْكَلَامَ إذَا تُرْجِمَ كَمَا تَرْجَمَتْ الْعَرَبُ كَلَامَ الْأَوَائِلِ مِنْ الْفُرْسِ وَالْيُونَانِ وَالْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ فَتِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ الْمَعَانِي وَهِيَ بَاقِيَةٌ لَمْ تَخْتَلِفْ بِكَوْنِهَا عَرَبِيَّةً أَوْ فَارِسِيَّةً أَوْ رُومِيَّةً أَوْ هِنْدِيَّةً.

وَكَذَلِكَ لَمَّا تَرْجُمُوا مَا تَرْجَمُوهُ مِنْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَنَا وَأُمَمِهِمْ فَتِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ هِيَ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ الْفَارِسِيَّةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَمَّا قَالَتْهُ الْأُمَمُ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ وَهُمْ إنَّمَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَقَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَتِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ هِيَ لَمْ يَكُنْ كَوْنُهَا حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ إيمَانًا أَوْ كُفْرًا أَوْ رُشْدًا أَوْ غَيًّا مِنْ جِهَةِ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ بَلْ لِأَنَّ تِلْكَ الْمَعَانِي هِيَ فِي نَفْسِهَا حَقَائِقُ مُتَنَوِّعَةٌ مُخْتَلِفَةٌ أَعْظَمُ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ وَاللُّغَاتِ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ، وَأَيْنَ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي مِنْ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ: اخْتِلَافِ صُوَرِ بَنِي آدَمَ وَأَلْسِنَتِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى اخْتِلَافِ قُلُوبِهِمْ وَعُلُومِهِمْ وَقُصُودِهِمْ.

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اخْتِلَافَ قُلُوبِهِمْ وَعِلْمِهَا وَإِرَادَتِهَا أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ مِنْ اخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ حَتَّى قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ عَنْ رَجُلَيْنِ يَا أَبَا ذَرٍّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلُ هَذَا» . فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا خَيْرًا مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ جِنْسِ الْآخَرِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ قُلُوبِهِمْ، فَاخْتِلَافُ الصُّوَرِ لَا يَبْلُغُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، وَهَكَذَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَى وَهُوَ التَّوْرَاةُ، وَاَلَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْقُرْآنُ لَمْ تَكُنْ مُغَايَرَةُ بَعْضِهِ بَعْضًا بِمُجَرَّدِ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ بِحَيْثُ إذَا تُرْجِمَ كُلُّ وَاحِدٍ بِلُغَةِ الْآخَرِ صَارَ مِثْلَهُ أَوْ صَارَ هُوَ إيَّاهُ كَمَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، مَعَ التَّرْجَمَةِ يَكُونُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعَانِي لَيْسَتْ هِيَ مَعَانِيَ الْآخَرِ وَلَا مِثْلَهَا بَلْ التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ مَعَانِي هَذِهِ الْكُتُبِ أَعْظَمُ مِنْ التَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ أَلْفَاظِهَا وَاللِّسَانُ الْعِبْرِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَمَعَ هَذَا فَمَعَانِي الْقُرْآنِ فَوْقَ مَعَانِي التَّوْرَاةِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ. ثُمَّ الْمَسِيحُ إنَّمَا كَانَ لِسَانُهُ عِبْرِيًّا وَإِنَّمَا بَعْدَهُ تُرْجِمَ الْإِنْجِيلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ أَفَنَرَى الْإِنْجِيلَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْعِبْرِيَّةِ هُوَ التَّوْرَاةَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>