أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ الْعَرَبِيِّ اخْتِصَاصٌ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُمَاثِلَهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَصْلًا، أَعْنِي خَاصَّةً فِي اللَّفْظِ وَخَاصَّةً فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا لَوْ فُسِّرَ الْقُرْآنُ وَلَوْ تُرْجِمَ فَالتَّفْسِيرُ وَالتَّرْجَمَةُ قَدْ يَأْتِي بِأَصْلِ الْمَعْنَى أَوْ يَقْرُبُهُ وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِلَفْظٍ يُبَيِّنُ الْمَعْنَى كَبَيَانِ لَفْظِ الْقُرْآنِ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَصْلًا وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّةُ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَلَا مَعَ الْعَجْزِ عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ، وَلَكِنْ يَجُوزُ تَرْجَمَتُهُ كَمَا يَجُوزُ تَفْسِيرُهُ وَإِنْ لَمْ تَجُزْ قِرَاءَتُهُ بِأَلْفَاظِ التَّفْسِيرِ وَهِيَ إلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ أَلْفَاظِ التَّرْجَمَةِ بِلُغَةٍ أُخْرَى.
الْأَصْلُ الثَّانِي: إنَّهُ إذَا تُرْجِمَ أَوْ قُرِئَ بِالتَّرْجَمَةِ فَلَهُ مَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُمَاثِلُهُ فِيهِ كَلَامٌ أَصْلًا وَمَعْنَاهُ أَشَدُّ مُبَايَنَةً لِسَائِرِ مَعَانِي الْكَلَامِ مِنْ مُبَايِنَةِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ لِسَائِرِ اللَّفْظِ وَالنَّظْمِ وَالْإِعْجَازُ فِي مَعْنَاهُ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ كَثِيرٍ مِنْ الْإِعْجَازِ فِي لَفْظِهِ. وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: ٨٨] يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ بِالْعَرَبِيَّةِ وَالسُّرْيَانِيَّةِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْمُتَرْجَمِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَالتُّرْكِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَقْرُوءُ بِالْعَرَبِيَّةِ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ مَعَ أَنَّا بِالْبَدِيهَةِ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ لَا فِي لَفْظٍ وَلَا مَعْنًى فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ إيَّاهُ وَهَلْ يَقُولُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ دِينٌ يَفْهَمُ مَا يَقُولُ أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ وَالْكَلَامَ الْمُنَزَّلَ هِيَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهَا كَدَلَالَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَمْ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ مَعَ تَنَوُّعِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَيَكُونُ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودُنَا عُمُومَ النَّفْيِ بَلْ مَقْصُودُنَا نَفْيُ الْعُمُومِ فَإِنَّا لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْكَلَامَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْمَعْنَى، وَقَدْ يُنَزِّلُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى نَبِيٍّ بِلُغَةٍ الْمَعْنَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى الْآخَرِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَاحِدًا وَاللَّفْظُ مُخْتَلَفًا، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فَإِنَّا نَحْنُ لَمْ نُنْكِرْ أَنَّ مَعَانِيَ الْأَلْفَاظِ تَتَّفِقُ، لَكِنْ الْمُنْكَرُ أَنْ يُقَالَ جَمِيعُ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْكُتُبِ مُتَّفِقَةٌ وَهِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ وَأَنَّ مَعْنَى مَا أَنْزَلَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ هُوَ بِعَيْنِهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَأَنَّ جَمِيعَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ وَمَعْنَى سُورَةِ الدَّيْنِ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَأَنَّ مَعْنَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: ١] مَعْنَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: ١] وَمَعْنَى الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَهَذَا لَوْ عُرِضَ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute