وَقَدْ قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ قَبْلَ ذَلِكَ لَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ عَيْنَ الْأَمْرِ هُوَ النَّهْيُ، مَعَ كَوْنِ الْأَمْرِ يُخَالِفُ النَّهْيَ فِي وَصْفِهِ وَمَعْنَاهُ، فَإِنَّ الْأَمْرَ اسْتِدْعَاءُ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيُ اسْتِدْعَاءُ التَّرْكِ، وَمَوْضُوعُ الْأَمْرِ إنَّمَا يُرَادُ مِنْهُ تَحْصِيلُ مَا يُرَادُ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ، وَمَوْضُوعُ النَّهْيِ يُرَادُ مِنْهُ مُجَانَبَةُ مَا يُكْرَهُ إمَّا بِطَرِيقِ التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ وَالتَّنْزِيهِ؛ وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ يَتَّصِلُ بِهِ أَوْ يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَقْتَضِيَ النَّهْيُ الصِّحَّةَ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِدَلِيلٍ يَتَّصِلُ بِهِ.
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ نُهِيَ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا عِنْدَ النَّاهِي عَنْهُ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمَرَ بِهِ لِكَوْنِهِ مَبْغُوضًا عِنْدَ الْآمِرِ بِهِ، لَكَانَ هَذَا قَوْلًا بَاطِلًا يَشْهَدُ الْعَقْلُ بِفَسَادِهِ، وَيُعْرَفُ جَرْيُ الْعَادَةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ وَعَيْنِهِ غَيْرَ النَّهْيِ بِنَفْسِهِ وَعَيْنِهِ، وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ ذَلِكَ مَقْطُوعٌ بِهِ غَيْرُ مُسَوَّغٍ حُصُولُهُ لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا مُمْكِنًا.
قُلْت: مَا ذَكَرَهُ مِنْ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ كَمَا ذَكَرَهُ لَكِنْ يُقَالُ لَهُ وَلِمَنْ وَافَقَهُ: وَأَنْتُمْ أَيْضًا قَدْ قُلْتُمْ فِي مُقَابَلَةِ هَؤُلَاءِ مَا هُوَ فِي الْفَسَادِ ظَاهِرٌ، كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي مَسْأَلَةِ الْحُرُوفِ وَالصَّوْتِ، قَالُوا: إذَا قُلْتُمْ إنَّ الْقُرْآنَ صَوْتٌ نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا، وَاَلَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي إنَّمَا هُوَ صَوْتُهُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْهُ، وَهُوَ عَرَضٌ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمِهِ وَعُدِمَ بَعْدَ وُجُودِهِ، وَهُوَ مِمَّا يَقُومُ بِهِ وَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ حَرَكَاتِهِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: هَذَا هُوَ الْقَدِيمُ، فَنَقُولُ لَكُمْ: هَذَا هُوَ صَوْتُ اللَّهِ، فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ، فَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّا نَعْلَمُهُ وَنَتَحَقَّقُهُ صَوْتُ الْقَارِئِ، وَإِنْ قُلْتُمْ: إنَّهُ صَوْتُ الْقَارِئِ، فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ بِأَنَّهُ مُحْدَثٌ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِكُمْ.
قَالَ: قُلْنَا: قَوْلُكُمْ إنَّ الصَّوْتَ الَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي لِلْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ صَوْتُهُ الَّذِي يَحْدُثُ عَنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ هُوَ دَعْوَى مَسْأَلَةِ الْخِلَافِ. بَلْ نَقُولُ: إنَّ هَذَا الَّذِي نُدْرِكُهُ بِأَسْمَاعِنَا عِنْدَ تِلَاوَةِ التَّالِي هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ، فَلَا نُسَلِّمُ لَكُمْ مَا قُلْتُمْ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الْعَدَمِ وَالْوُجُودِ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَالْفِنَاءِ بَعْدَ الْوُجُودِ، لَيْسَ لِأَمْرٍ كَذَلِكَ بَلْ نَقُولُ: إنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَ حَرَكَاتِ التَّالِي بِالْآيَةِ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ، فَأَمَّا عَدَمُهُ قَبْلُ وَبَعْدُ، فَلَا.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِحَرَكَاتِهِ فَقَدْ أَسْلَفْنَا الْجَوَابَ عَنْهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute