للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خَلَقَهَا وَأَظْهَرَ بِهَا الْمَعْنَى الْقَدِيمَ وَدَلَّ بِهَا عَلَيْهِ، فَاسْتَحَقَّتْ الْإِكْرَامَ وَالتَّحْرِيمَ لِذَلِكَ، حَيْثُ يَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ بِحَيْثُ لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا، أَوْ يُفْصَلُ بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا مُظْهَرٌ هَذَا دَلِيلُهُ، وَجَعَلُوا مَا لَيْسَ هُوَ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ قَطُّ كَلَامًا لِلَّهِ مُعَظَّمًا تَعْظِيمَ كَلَامِ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَتْ النَّصَارَى النَّاسُوتَ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِإِلَهٍ قَطُّ، وَلَا هُوَ الْكَلِمَةُ إلَهًا وَكَلِمَةً، وَعَظَّمُوهُ تَعْظِيمَ الْإِلَهِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ عِنْدَهُمْ.

وَمِنْهَا: أَنَّ النَّصَارَى عَلَى مَا حَكَى عَنْهُمْ الْمُتَكَلِّمُونَ كَابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَوْ غَيْرِهِ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ: إنَّ الْأَقَانِيمَ الَّتِي هِيَ الْوُجُودُ وَالْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ، هِيَ خَوَاصُّ، هِيَ صِفَاتٌ نَفْسِيَّةٌ لِلْجَوْهَرِ، لَيْسَتْ صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ الْكَلِمَةَ هِيَ الْعِلْمُ، لَيْسَتْ هِيَ كَلَامَ اللَّهِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ صِفَةُ فِعْلٍ، وَهُوَ مَخْلُوقٌ، فَقَوْلُهُمْ فِي هَذَا كَقَوْلِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ، الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا يَكُونُ قَوْلَ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ خَاطَبَهُمْ مُتَكَلِّمُو الْجَهْمِيَّةِ مِنْ النَّسْطُورِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، وَمِمَّنْ تَفَلْسَفَ مِنْهُمْ عَلَى مَذْهَبِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ، وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ، وَإِلَّا فَلَا رَيْبَ أَنَّ فِي النَّصَارَى مُثَبِّتَةً لِلصِّفَاتِ، بَلْ غَالِيَةً فِي ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْيَهُودَ أَيْضًا فِيهِمْ الْمُثْبِتَةُ وَالنَّفَّات.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ لِلْعِلْمِ كَلِمَةً دُونَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا مَعْقُولًا، كَمَا تُعْقَلُ الصِّفَاتُ الْقَائِمَةُ بِالْمَوْصُوفِ، ضَاهَاهُمْ فِي ذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ دُونَ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الْمَعْقُولَ مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ، فَحَرَّفُوا اسْمَ الْكَلَامِ وَمَعْنَاهُ، كَمَا حَرَّفَتْ النَّصَارَى اسْمَ الْكَلِمَةِ وَمَعْنَاهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ ذَكَرْته مِنْ مُضَاهَاةِ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.

[وَقَدْ] رَأَيْت بَعْدَ ذَلِكَ النَّاسَ قَدْ نَبَّهُوا عَلَى ذَلِكَ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزَّاغُونِيِّ: فِي مَسْأَلَةِ وَحْدَةِ الْكَلَامِ دَلِيلٌ آخَرُ، يُقَالُ لَهُمْ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَكُمْ فِي قَوْلِكُمْ إنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ اثْنَانِ وَهُمَا وَاحِدٌ، وَالْقَوْلُ بِذَلِكَ قَوْلٌ صَحِيحٌ غَيْرُ مُنَافٍ لِلصِّحَّةِ وَالْإِمْكَانِ، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْكَلِمَةَ وَالنَّاسُوتَ وَاللَّاهُوتَ ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى قُبْحِهِ شَرْعًا وَعَقْلًا، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْكَلِمَةَ غَيْرُ النَّاسُوتِ وَاللَّاهُوتِ، وَكَذَلِكَ الْآخَرَانِ صِفَةٌ وَمَعْنًى، كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ يُخَالِفُ النَّهْيَ صِفَةً وَمَعْنًى؟ قَالَ: وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيدَ لَهُمْ عَنْهُ، وَلَا انْفِصَالَ لَهُمْ مِنْهُ إلَّا بِزَخَارِفَ عَاطِلَةٍ عَنْ صِحَّةٍ لَا يَصْلُحُ مِثْلُهَا أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً تُوقَفُ مَعَهَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>