للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نَزَلَ فَكَانَ خَبَرًا لَمْ يَكُنْ أَمْرًا؛ فَإِنَّهُ إذَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فَكَانَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَهِيَ خَبَرٌ لَمْ يَكُنْ آيَةَ الدَّيْنِ الَّتِي هِيَ أَمْرٌ، وَهَذَا لَعَلَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُضَاهَاةِ كَقَوْلِ النَّصَارَى: إنَّ الْجَوْهَرَ الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، وَإِذَا اتَّحَدَ فَإِنَّمَا يَكُونُ كَلِمَةً وَابْنًا لَا يَكُونُ أَبًا وَلَا رُوحَ قُدُسٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَمَا جَعَلُوا الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ يَتَّحِدُ وَلَا يَتَّحِدُ مَا يَتَّحِدُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ كَلِمَةً، وَلَا يَتَّحِدُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وُجُودًا، أَجَعَلَ أُولَئِكَ الَّذِي هُوَ كَلَامٌ وَاحِدٌ يَنْزِلُ وَلَا يَنْزِلُ، يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَمْرًا، وَلَا يَنْزِلُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَبَرًا.

وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ ضَاهَوْا النَّصَارَى فِي تَحْرِيفِ مُسَمَّى الْكَلِمَةِ وَالْكَلَامِ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِكَلِمَتِهِ: {كُنْ فَيَكُونُ} ، كَمَا يُسَمَّى مُتَعَلِّقُ الصِّفَاتِ بِأَسْمَائِهَا فَيُسَمَّى الْمَقْدُورُ قُدْرَةً، وَالْمَعْلُومُ عِلْمًا، وَمَا يُرْحَمُ بِهِ رَحْمَةً، وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا وَهَذَا كَثِيرٌ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، لَكِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ نَادِرَةٌ يَجْعَلُونَهَا صِفَةً لِلَّهِ، وَيَقُولُونَ هِيَ الْعِلْمُ، وَتَارَةً يَجْعَلُونَهَا جَوْهَرًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَهِيَ الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ، وَهَؤُلَاءِ حَرَّفُوا مُسَمَّى الْكَلِمَةِ فَزَعَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ الْمَعْنَى، وَأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ وَلَا الْإِرَادَةَ، وَلَا هُوَ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ هُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَقَائِقُ مُخْتَلِفَةٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِي غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَقُولُ الْكَلَامُ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ؛ إلَّا مَا يُذْكَرُ عَنْ النَّظَّامِ أَنَّهُ قَالَ: الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ الصَّوْتُ جِسْمٌ مِنْ الْأَجْسَامِ.

وَأَيْضًا فَهُمْ فِي لَفْظِ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ حُرُوفُهُ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى الْمَعْنَى لَهُمْ مُضَاهَاةٌ قَوِيَّةٌ بِالنَّصَارَى فِي جَسَدِ الْمَسِيحِ الَّذِي هُوَ مُتَدَرِّعٌ لِلَّاهُوتٍ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ، كَمَا أَنَّ النَّصَارَى مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَمْ يَكُنْ مِنْ اللَّاهُوتِ بَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ، ثُمَّ يَقُولُونَ: الْمَعْنَى الْقَدِيمُ لَمَّا أُنْزِلَ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ الْمَخْلُوقَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْحُرُوفَ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً كَمَا يُسَمِّي الْمَعْنَى كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَلْ هِيَ كَلَامُ اللَّهِ مَجَازًا، كَمَا أَنَّ النَّصَارَى مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُ جَسَدَ الْمَسِيحِ لَاهُوتًا حَقِيقَةً لِاتِّحَادِهِ بِاللَّاهُوتِ، وَاخْتِلَاطِهِ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هُوَ مَحَلُّ اللَّاهُوتِ وَوِعَاؤُهُ.

ثُمَّ النَّصَارَى تَقُولُ: هَذَا الْجَسَدُ إنَّمَا عُبِدَ لِكَوْنِهِ مَظْهَرَ اللَّاهُوتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ إيَّاهُ، وَلَكِنْ صَارَ هُوَ إيَّاهُ بِطَرِيقِ الِاتِّحَادِ، وَهُوَ مَحَلُّهُ بِطَرِيقِ الْحُلُولِ، فَعُظِّمَ كَذَلِكَ.

وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: هَذِهِ الْحُرُوفُ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ بِهَا، وَلَكِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>