وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: أَحَدِيُّ الذَّاتِ، ثُلَاثِيٌّ الصِّفَاتِ، فَهُمْ لَا يَكْتَفُونَ بِذَلِكَ - كَمَا تَقَدَّمَ - بَلْ يَقُولُونَ الثَّلَاثَةُ جَوَاهِرُ وَالْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ وَاحِدٌ مِنْهَا دُونَ الْآخَرِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَهُمْ عَلَى قَوْلٍ يُعْقَلُ فَقَدْ قَالَ الْبَاطِلَ، كَقَوْلِ الْمُتَكَايِسِينَ مِنْهُمْ هَذَا كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ الطَّبِيبُ، وَزَيْدٌ الْحَاسِبُ، وَزَيْدٌ الْكَاتِبُ فَهُمْ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ بِاعْتِبَارِ الصِّفَاتِ، وَهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: مَنْ يَقُولُ هَذَا لَا يَقُولُ بِأَنَّ زَيْدًا الطَّبِيبَ فَعَلَ كَذَا أَوْ اتَّحَدَ بِكَذَا أَوْ حَلَّ بِهِ دُونَ زَيْدٍ الْحَاسِبِ وَالْكَاتِبِ، بَلْ أَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ وُصِفَ بِهِ زَيْدٌ الطَّبِيبُ فِي هَذَا الْمِثَالِ فَهُوَ الْمَوْصُوفُ بِهِ زَيْدٌ الْكَاتِبُ الْحَاسِبُ.
وَالنَّصَارَى يُثْبِتُونَ هَذَا الْمُثَلَّثَ فِي الْأَقَانِيمِ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ الْمُتَّحِدَ هُوَ الْوَاحِدُ فَيَجْعَلُونَ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهَ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَوْصُوفُ اتَّحَدَ بِهِ، وَيَجْعَلُونَهُ هُوَ ابْنَ اللَّهِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا اتَّحَدَ بِهِ الْجَوْهَرُ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، أَوْ إنَّمَا اتَّحَدَ بِهِ الْكَلِمَةُ دُونَ الْأَبِ الَّذِي هُوَ الْمَوْجُودُ، وَدُونَ رُوحِ الْقُدُسِ وَهُمَا أَيْضًا جَوْهَرَانِ، فَقَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّ قَوْلَ النَّصَارَى بِهَذَا وَبِهَذَا جَمَعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ أَفْسَدُ شَيْءٍ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا كُفْرٌ كَمَا كَفَّرَهُمْ اللَّهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَإِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ الْأُمَّ الَّتِي هِيَ وَالِدَةُ الْإِلَهِ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا كُفْرٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ تَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ، فَالْقُرْآنُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَصْنَافِ كُفْرِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ تَنَاوُلًا تَامًّا، وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى مُضَاهَاةِ الْجَهْمِيَّةِ لَهُمْ دُونَ تَفْصِيلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِمْ. وَالْجَهْمِيَّةُ الْغِلَاظُ يُضَاهُونَهُمْ مُضَاهَاةً عَظِيمَةً، لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا ذِكْرُ مُضَاهَاةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ قَائِمٌ بِذَاتِ الرَّبِّ؛ فَيُقَالُ: أَنْتُمْ قُلْتُمْ الْكَلَامَ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدُ هُوَ بِعَيْنِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ، فَجَعَلْتُمْ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةً، وَجَعَلْتُمْ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ثَلَاثَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةً، وَهَذَا مُضَاهَاةٌ قَوِيَّةٌ لِقَوْلِ النَّصَارَى: الرَّبُّ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ جَوَاهِرَ، فَجَعَلُوهُ وَاحِدًا.
وَجَعَلُوهُ ثَلَاثَةً، ثُمَّ قُلْتُمْ: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ وَهُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَخَبَرٌ، يَنْزِلُ تَارَةً فَيَكُونُ أَمْرًا؛ وَتَارَةً فَيَكُونُ خَبَرًا، وَتَارَةً فَيَكُونُ نَهْيًا؛ وَإِذَا نَزَلَ فَكَانَ أَمْرًا، لَمْ يَكُنْ خَبَرًا، وَإِنَّمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute