وَهَذَا يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ كُفْرِ النَّصَارَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْإِلَهُ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ لَهُ ثَلَاثُ أَقَانِيمَ، وَهَذِهِ الْأَقَانِيمُ يَجْعَلُونَهَا تَارَةً جَوَاهِرَ وَأَشْخَاصًا، وَتَارَةً صِفَاتٍ وَخَوَاصًّا، فَيَقُولُونَ: الْوُجُودُ الَّذِي هُوَ الْأَبُ، وَالِابْنُ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ، وَرُوحُ الْقُدُسِ الَّتِي هِيَ الْحَيَاةُ عِنْدَ مُتَقَدِّمِيهِمْ، وَالْقُدْرَةُ عِنْدَ مُتَأَخِّرِيهِمْ. فَيَقُولُونَ مَوْجُودٌ حَيٌّ عَالِمٌ نَاطِقٌ أَوْ مَوْجُودٌ عَالِمٌ قَادِرٌ. لَكِنْ يَقُولُونَ أَيْضًا إنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ الِابْنُ جَوْهَرٌ، وَرُوحُ الْقُدُسِ أَيْضًا جَوْهَرٌ، وَأَنَّ الْمُتَّحِدَ بِالْمَسِيحِ هُوَ جَوْهَرُ الْكَلِمَةِ دُونَ جَوْهَرِ الْأَبِ وَرُوحِ الْقُدُسِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ بَيْنَهُمْ فِيهِ. وَمِنْ هُنَا قَالُوا كُلُّهُمْ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ، وَقَالُوا كُلُّهُمْ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَبَ وَالِابْنَ وَرُوحَ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ وَجَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَقَدْ اتَّحَدَ بِالْمَسِيحِ كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ اللَّهُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَبَ جَوْهَرٌ وَالِابْنُ جَوْهَرٌ وَرُوحُ الْقُدُسِ جَوْهَرٌ وَاَلَّذِي اتَّحَدَ بِهِ هُوَ جَوْهَرُ الِابْنِ الَّذِي هُوَ الْكَلِمَةُ، كَانَ الْمَسِيحُ هُوَ ابْنَ اللَّهِ عِنْدَهُمْ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ - وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَضَمِّنًا لِكُفْرِهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُمَا مُتَنَاقِضَانِ، إذْ كَوْنُهُ هُوَ يُنَاقِضُ كَوْنَهُ ابْنَهُ، لَكِنْ النَّصَارَى يَقُولُونَ هَذَا كُلُّهُمْ، وَيَقُولُونَ هَذَا كُلُّهُمْ، كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُمْ مَعْلُومَ التَّنَاقُضِ فِي بَدِيهَةِ الْعُقُولِ، عِنْدَ كُلِّ مَنْ تَصَوَّرَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَقَانِيمَ إذَا كَانَتْ صِفَاتٍ أَوْ خَوَّاصًا وَقُدِّرَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَهُ بِكُلِّ صِفَةٍ اسْمٌ كَمَا مَثَّلُوهُ بِقَوْلِهِمْ " زَيْدٌ الطَّبِيبُ " " وَزَيْدٌ الْحَاسِبُ " " وَزَيْدٌ الْكَاتِبُ " لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يَتَّحِدُ بِشَيْءٍ دُونَ الْجَوْهَرِ، وَلَا أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الصِّفَاتِ يُفَارِقُ بَعْضًا فَلَا يُتَصَوَّرُ مُفَارَقَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا وَلَا مُفَارَقَةُ شَيْءٍ مِنْهَا لِلْمَوْصُوفِ حَتَّى يُقَالَ الْمُتَّحِدُ بِالْمَسِيحِ بَعْضُ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ ذَلِكَ أَيْضًا بَلْ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الْمُتَّحَدَ بِهِ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَوْهَرٌ إلَّا جَوْهَرَ الْأَبِ كَانَ جَوْهَرُ الْأَبِ هُوَ الْمُتَّحِدَ، وَإِنْ كَانَ جَوْهَرُ الِابْنِ غَيْرَهُ فَهُمَا جَوْهَرَانِ مُنْفَصِلَانِ وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ.
وَالْمَوْصُوفُ أَيْضًا لَا يُفَارِقُ صِفَاتِهِ، كَمَا لَا تُفَارِقُهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: اتَّحَدَ الْجَوْهَرُ بِالْمَسِيحِ بِأُقْنُومِ الْعِلْمِ دُونَ الْحَيَاةِ، إذْ الْعِلْمُ وَالْحَيَاةُ لَازِمَانِ لِلذَّاتِ، لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تُفَارِقَهُمَا الذَّاتُ وَلَا يُفَارِقَهُمَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: النَّصَارَى غَلِطُوا فِي أَوَّلِ مَسْأَلَةٍ مِنْ الْحِسَابِ الَّذِي يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ،، وَهُوَ قَوْلُهُمْ الْوَاحِدُ ثَلَاثَةٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute