فَيَكُونُ عَلَى هَذَا تِلْكَ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِهِمْ تَثْلِيثُ الْأَقَانِيمِ، وَهَاتَانِ فِي قَوْلِهِمْ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، فَالْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ رَدَّ فِي كُلِّ آيَةٍ عَلَى صِنْفٍ مِنْهُمْ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ جَعْلُهُمْ لِلْمَسِيحِ إلَهًا، وَلِأُمِّهِ إلَهًا مَعَ اللَّهِ، كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: ١١٦] إلَى قَوْلِهِ: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: ١١٧] الْآيَةَ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: ٧٣] {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: ٧٤] {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: ٧٥] فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: ٧٥] عَقِبَ قَوْلِهِ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: ٧٣] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّثْلِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ اتِّخَاذُ الْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمُّهُ إلَهَيْنِ، وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ حَكَى مِنْ النَّصَارَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْحُلُولِ فِي مَرْيَمَ وَالِاتِّحَادِ بِالْمَسِيحِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى تَحْقِيقِ مَذْهَبِهِمْ.
وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ كُلُّ آيَةٍ مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ تَعُمُّ جَمِيعَ طَوَائِفِهِمْ، وَتَعُمُّ أَيْضًا بِتَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ، وَبِالِاتِّحَادِ وَالْحُلُولِ، فَتَعُمُّ أَصْنَافَهُمْ وَأَصْنَافَ كُفْرِهِمْ، لَيْسَ يَخْتَصُّ كُلَّ آيَةٍ بِصِنْفٍ، كَمَا قَالَ مَنْ يَزْعُمُ ذَلِكَ، وَلَا تَخْتَصُّ آيَةٌ بِتَثْلِيثِ الْأَقَانِيمِ، وَآيَةٌ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، بَلْ هُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ فِي كُلِّ آيَةٍ كُفْرَهُمْ الْمُشْتَرَكَ، وَلَكِنْ وَصَفَ كُفْرَهُمْ بِثَلَاثِ صِفَاتٍ وَكُلُّ صِفَةٍ تَسْتَلْزِمُ الْأُخْرَى: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ، وَيَقُولُونَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَيَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، حَيْثُ اتَّخَذُوا الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، هَذَا بِالِاتِّحَادِ، وَهَذِهِ بِالْحُلُولِ، وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ إثْبَاتُ ثَلَاثَةِ آلِهَةٍ مُنْفَصِلَةٍ غَيْرِ الْأَقَانِيمِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute