لَوْ جَازَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا فِي عَصْرِهِ لَمَا كَانَ إلَّا هُوَ، مِنْ حُسْنِ طَرِيقَتِهِ، وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَدِيَانَتِهِ، فِي كَمَالِ فَضْلِهِ.
وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَافِرِ أَنَّهُ كَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ، قَالَ: وَلَهُ فِي الْفِقْهِ تَصَانِيفُ كَثِيرَةُ الْفَوَائِدِ، مِثْلُ: التَّبْصِرَةُ وَالتَّذْكِرَةُ " وَمُخْتَصَرُ الْمُخْتَصَرِ " وَلَهُ التَّفْسِيرُ الْكَبِيرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ أَنْوَاعٍ فِي كُلِّ آيَةٍ.
وَأَمَّا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فَهُوَ الشَّافِعِيُّ الثَّالِثُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، وَلَا بَعْدَ أَبِي الْعَبَّاسِ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، حَتَّى ذَكَرَ أَبُو إِسْحَاقَ فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ إنَّهُ أَنْظَرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ، وَهَذَا الْكَلَامُ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَتْ زِيَادَتُهُ لَكِنْ لَوْلَا بَرَاعَةُ أَبِي حَامِدٍ مَا قَالَ فِيهِ مِثْلُ الشَّيْخِ أَبِي الْحُسَيْنِ هَذَا الْقَوْلَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ أَعْرَفَ الْأَصْحَابِ بِمَنَاصِيصِ الشَّافِعِيِّ، وَأَعْظَمَهُمْ بَرَكَةً فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مِنْ كَثَّرَ شَرْحَ الْمُزَنِيّ وَشَحَنَهُ بِالْمُخْتَلِفِ وَالْمُؤْتَلِفِ، وَنَصَرَ فِيهِ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ، وَجَعَلَهُ مَسَاغًا لِاجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً لَيْسُوا مِنْهُمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لَهُمْ، وَذَكَرَ مِنْهُمْ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ، قَالَ: وَكَانَ يَظُنُّ بِهِ مَنْ لَا يَفْهَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْأَشْعَرِيِّ لِقَوْلِهِ فِي كِتَابِهِ فِي أَحْوَالِ الْفِقْهِ، وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ: إنَّ الْأَمْرَ لَا صِيغَةَ لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ اعْتِقَادَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ خَالَفَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا انْفَرَدَ بِهَا أَبُو الْحَسَنِ.
قَالَ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا هَذَا عِنْدَ فَتْوَاهُ عَلَى مَنْ خَالَفَ الْأَشْعَرِيَّةَ وَاعْتَقَدَ تَبْدِيعَهُمْ، وَذَلِكَ أَوْفَى دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْفَتْوَى وَنُسْخَتَهَا: مَا قَوْلُ السَّادَةِ الْحِلْيَةِ الْأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ أَحْسَنَ اللَّهُ تَوْفِيقَهُمْ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْمٍ اجْتَمَعُوا عَلَى لَعْنِ فِرْقَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَتَكْفِيرِهِمْ، مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ؟ أَفْتُونَا فِي ذَلِكَ مُنَعَّمِينَ مُثَابِينَ.
الْجَوَابُ - وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ - أَنَّ كُلَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى لَعْنِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَكْفِيرِهِمْ فَقَدْ ابْتَدَعَ وَارْتَكَبَ مَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَعَلَى النَّاظِرِ فِي الْأُمُورِ أَعَزَّ اللَّهُ أَنْصَارَهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَتَأْدِيبُهُ بِمَا يَرْتَدِعُ هُوَ وَأَمْثَالُهُ عَنْ ارْتِكَابِ مِثْلِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute