للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: ٣٠] . فَأَصْلُ الصَّلَاحِ التَّوْحِيدُ وَالْإِيمَانُ، وَأَصْلُ الْفَسَادِ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ، كَمَا قَالَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: ١١] {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: ١٢] . وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ وَبِهِ الْمَقْصُودُ الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ، وَلِذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ، وَالْفَاسِدُ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُهُ، وَالصَّحِيحُ الْمُقَابِلُ لِلْفَاسِدِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ هُوَ الصَّالِحُ: وَكَانَ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ: هَذَا لَا يَصْلُحُ أَوْ يَصْلُحُ، كَمَا كَثُرَ فِي كَلَامِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ. وَاَللَّهُ - تَعَالَى - إنَّمَا خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِعِبَادَتِهِ، وَبَدَنُهُ تَبَعٌ لِقَلْبِهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلُحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَصَلَاحُ الْقَلْبِ فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ وَبِهِ الْمَقْصُودُ الَّذِي خُلِقَ لَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَفَسَادُهُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ، فَلَا صَلَاحَ لِلْقُلُوبِ بِدُونِ ذَلِكَ قَطُّ. وَالْقَلْبُ لَهُ قُوَّتَانِ: الْعِلْمُ وَالْقَصْدُ، كَمَا أَنَّ لِلْبَدَنِ الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ الْإِرَادِيَّةَ، فَكَمَا أَنَّهُ مَتَى خَرَجَتْ قُوَى الْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ عَنْ الْحَالِ الْفِطْرِيِّ الطَّبِيعِيِّ فَسَدَتْ. فَإِذَا خَرَجَ الْقَلْبُ عَنْ الْحَالِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي يُولَدُ كُلُّ مَوْلُودٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا لِرَبِّهِ مُرِيدًا لَهُ فَيَكُونُ هُوَ مُنْتَهَى قَصْدِهِ وَإِرَادَتِهِ.

وَذَلِكَ هِيَ الْعِبَادَةُ، إذْ الْعِبَادَةُ كَمَالُ الْحُبِّ بِكَمَالِ الذُّلِّ، فَمَتَى لَمْ تَكُنْ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَوَجْهُهُ وَإِرَادَتُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَانَ فَاسِدًا، إمَّا بِأَنْ يَكُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>