وَوَافَقَهُمْ كَانَ قَدْ أَحْسَنَ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ، فَهُوَ بِحَسَبِ مَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ السُّنَّةِ.
وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ اعْتَقَدَتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْنُتْ إلَّا شَهْرًا، ثُمَّ تَرَكَهُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لَهُ، فَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْقُنُوتَ فِي الْمَكْتُوبَاتِ مَنْسُوخٌ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ اعْتَقَدُوا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ.
وَالصَّوَابُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَهُوَ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصَيَّةَ ثُمَّ تَرَكَ هَذَا الْقُنُوتَ، ثُمَّ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ بَعْدَ خَيْبَرَ، وَبَعْدَ إسْلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَنَتَ، وَكَانَ يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ: اللَّهُمَّ، أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اُشْدُدْ وَطْأَتَك عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» . فَلَوْ كَانَ قَدْ نُسِخَ الْقُنُوتُ لَمْ يَقْنُتْ هَذِهِ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ، وَفِي الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ» .
وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ «كَانَ يَقْنُتُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَكْثَرُ قُنُوتِهِ كَانَ فِي الْفَجْرِ» ، وَلَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى الْقُنُوتِ لَا فِي الْفَجْرِ وَلَا غَيْرِهَا: بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَمْ يَقْنُتْ بَعْدَ الرُّكُوعِ إلَّا شَهْرًا» . فَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَا زَالَ يَقْنُتُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا» إنَّمَا قَالَهُ فِي سِيَاقِ الْقُنُوتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ عَارَضَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، فَإِنَّ الرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ لَيْسَ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحِ، فَكَيْفَ وَهُوَ لَمْ يُعَارِضْهُ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ فِي الْفَجْرِ دَائِمًا، قَبْلَ الرُّكُوعِ.
وَأَمَّا أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو فِي الْفَجْرِ دَائِمًا قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ بِدُعَاءٍ يُسْمَعُ مِنْهُ أَوْ لَا يُسْمَعُ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا، وَكُلُّ مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ عَلِمَ هَذَا بِالضَّرُورَةِ، وَعَلِمَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute