وَأَمَّا الْأَفْضَلُ لِمَنْ قَدِمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ: فَالتَّحَلُّلُ مِنْ إحْرَامِهِ بِعُمْرَةٍ أَفْضَلُ لَهُ كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّهُ «أَمَرَ كُلَّ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ بِالتَّمَتُّعِ» ، وَمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَالْقِرَانُ لَهُ أَفْضَلُ، كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ اعْتَمَرَ فِي سَفْرَةٍ، وَحَجَّ فِي سَفْرَةٍ، أَوْ اعْتَمَرَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَأَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ فَهَذَا الْإِفْرَادُ لَهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُوَ مِمَّا تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: فَأَوْجَبَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا أَوْ اسْتَحَبَّهُ وَحَرَّمَهُ الْآخَرُ، وَالسُّنَّةُ لَا تَدُلُّ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ تُسَوِّغْهُمَا جَمِيعًا، فَهَذَا هُوَ أَشْكَلُ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ.
وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَالسُّنَّةُ قَدْ سَوَّغَتْ الْأَمْرَيْنِ. وَهَذَا مِثْلُ تَنَازُعِهِمْ فِي قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ حَالَ الْجَهْرِ، فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. قِيلَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَأَ حَالَ جَهْرِ الْإِمَامِ إذَا كَانَ يَسْمَعُ، لَا بِالْفَاتِحَةِ وَلَا غَيْرِهَا، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقِيلَ: بَلْ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ، وَالْقِرَاءَةُ أَفْضَلُ.
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: بَلْ الْقِرَاءَةُ وَاجِبَةٌ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: ٢٠٤] قَالَ أَحْمَدُ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ. فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا، وَإِذَا كَبَّرَ وَرَكَعَ فَكَبِّرُوا وَارْكَعُوا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْكَعُ قَبْلَكُمْ، وَيَرْفَعُ قَبْلَكُمْ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ» الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ. وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ ثَابِتٌ: فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالْإِنْصَاتِ لِلْإِمَامِ إذَا قَرَأَ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الِائْتِمَامِ بِهِ، فَمَنْ لَمْ يُنْصِتْ لَهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ ائْتَمَّ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِمَامَ يَجْهَرُ لِأَجْلِ الْمَأْمُومِ، وَلِهَذَا يُؤَمِّنُ الْمَأْمُومُ عَلَى دُعَائِهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَمِعْ لِقِرَاءَتِهِ ضَاعَ جَهْرُهُ، وَمَصْلَحَةُ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute