للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصْلَحَةِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْمُنْفَرِدُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي وِتْرٍ مِنْ صَلَاتِهِ فَعَلَ كَمَا يَفْعَلُ، فَيَتَشَهَّدُ عَقِيبَ الْوِتْرِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ إذَا وَجَدَهُ سَاجِدًا، كُلُّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ، فَكَيْفَ لَا يَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِهِ، مَعَ أَنَّهُ بِالِاسْتِمَاعِ يَحْصُلُ لَهُ مَصْلَحَةُ الْقِرَاءَةِ، فَإِنَّ الْمُسْتَمِعَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الْقَارِئِ.

وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا اتِّفَاقُهُمْ كُلِّهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ مَعَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْفَاتِحَةِ إذَا جَهَرَ، فَلَوْلَا أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ أَجْرُ الْقِرَاءَةِ بِإِنْصَاتِهِ لَهُ لَكَانَتْ قِرَاءَتُهُ لِنَفْسِهِ أَفْضَلَ مِنْ اسْتِمَاعِهِ لِلْإِمَامِ، وَإِذَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِالْإِنْصَاتِ أَجْرُ الْقَارِئِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قِرَاءَتِهِ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا مَنْفَعَةٌ، بَلْ فِيهَا مَضَرَّةٌ شَغَلَتْهُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ تَنَازَعُوا إذَا لَمْ يُسْمَعْ الْإِمَامُ لِكَوْنِ الصَّلَاةِ صَلَاةَ مُخَافَتَةٍ، أَوْ لِبُعْدِ الْمَأْمُومِ، أَوْ طَرَشِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ هَلْ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْرَأَ أَوْ يَسْكُتَ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَمِعُ قِرَاءَةً يَحْصُلُ لَهُ بِهَا مَقْصُودُ الْقِرَاءَةِ، فَإِذَا قَرَأَ لِنَفْسِهِ حَصَلَ لَهُ أَجْرُ الْقِرَاءَةِ وَإِلَّا بَقِيَ سَاكِتًا لَا قَارِئًا وَلَا مُسْتَمِعًا، وَمَنْ سَكَتَ غَيْرَ مُسْتَمِعٍ وَلَا قَارِئٍ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِذَلِكَ، وَلَا مَحْمُودًا؛ بَلْ جَمِيعُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى: كَالْقِرَاءَةِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالدُّعَاءِ، أَوْ الِاسْتِمَاعِ لِلذِّكْرِ.

وَإِذَا قِيلَ: بِأَنَّ الْإِمَامَ يَحْمِلُ عَنْهُ فَرْضَ الْقِرَاءَةِ، فَقِرَاءَتُهُ لِنَفْسِهِ أَكْمَلُ لَهُ، وَأَنْفَعُ لَهُ، وَأَصْلَحُ لِقَلْبِهِ، وَأَرْفَعُ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وَالْإِنْصَاتُ لَا يُؤْمَرُ بِهِ إلَّا حَالَ الْجَهْرِ، فَأَمَّا حَالُ الْمُخَافَتَةِ فَلَيْسَ فِيهِ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ، حَتَّى يُنْصِتَ لَهُ.

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: فِعْلُ الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ، مِثْلُ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَالْعَصْرِ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُهُ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ.

وَالسُّنَّةُ إمَّا أَنْ تَسْتَحِبَّهُ، وَإِمَّا أَنْ تَكْرَهَهُ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ مَنْ اسْتَحَبَّ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، اخْتَارَهَا طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ؛ فَإِنَّ أَحَادِيثَ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ» عُمُومٌ مَخْصُوصٌ، خُصَّ مِنْهَا صَلَاةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>