وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّأَسِّي هُوَ الْمَشْرُوعُ، فَإِذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارًّا يَخْرُجُ فِيهِ الدَّمُ إلَى الْجِلْدِ كَانَتْ الْحِجَامَةُ هِيَ الْمَصْلَحَةُ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ بَارِدًا يَغُورُ فِيهِ الدَّمُ إلَى الْعُرُوقِ كَانَ إخْرَاجُهُ بِالْفَصْدِ هُوَ الْمَصْلَحَةُ.
وَكَذَلِكَ إدْهَانُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ الْمَقْصُودُ خُصُوصُ الدَّهْنِ، أَوْ الْمَقْصُودُ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ؟ فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ رَطْبًا وَأَهْلُهُ يَغْتَسِلُونَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ الَّذِي يُغْنِيهِمْ عَنْ الدَّهْنِ، وَالدَّهْنُ يُؤْذِي شُعُورَهُمْ وَجُلُودَهُمْ، يَكُونُ الْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِمْ تَرْجِيلُ الشَّعْرِ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَشْبَهُ.
وَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ يَأْكُلُ الرُّطَبَ وَالتَّمْرَ وَخُبْزَ الشَّعِيرِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ، فَهَلْ التَّأَسِّي بِهِ أَنْ يَقْصِدَ خُصُوصَ الرُّطَبِ وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ مَنْ يَكُونُ فِي بِلَادٍ لَا يَنْبُتُ فِيهَا التَّمْرُ، وَلَا يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ، بَلْ يَقْتَاتُونَ الْبُرَّ أَوْ الرُّزَّ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْمَشْرُوعُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا فَتَحُوا الْأَمْصَارَ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَأْكُلُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ، وَيَلْبَسُ مِنْ لِبَاسِ بَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ أَقْوَاتَ الْمَدِينَةِ وَلِبَاسَهَا، وَلَوْ كَانَ هَذَا الثَّانِي هُوَ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِمْ، لَكَانُوا أَوْلَى بِاخْتِيَارِ الْأَفْضَلِ.
وَعَلَى هَذَا يُبْنَى نِزَاعُ الْعُلَمَاءِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْبَلَدِ يَقْتَاتُونَ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ. فَهَلْ يُخْرِجُونَ مِنْ قُوتِهِمْ كَالْبُرِّ وَالرُّزِّ، أَوْ يُخْرِجُونَ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ ذَلِكَ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، مِنْ الْمُسْلِمِينَ» .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: ٨٩] .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ: إنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتَزِرُونَ وَيَرْتَدُونَ؛
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute